الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وبِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ والجارِ ذِي القُرْبى والجارِ الجُنُبِ والصاحِبِ بِالجَنْبِ وابْنِ السَبِيلِ وما مَلَكَتْ أيْمانُكم إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ مُخْتالا فَخُورًا﴾ "الواوُ" لِعَطْفِ جُمْلَةِ الكَلامِ عَلى جُمْلَةٍ غَيْرِها، والعِبادَةُ: التَذَلُّلُ بِالطاعَةِ، ومِنهُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ، وبَعِيرٌ مُعَبَّدٌ، إذا كانا مُعَلَّمَيْنِ، و"إحْسانًا" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، والعامِلُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وأحْسِنُوا بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا، وما ذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّهُ نُصِبَ بِالإغْراءِ خَطَأٌ، والقِيامُ بِحُقُوقِ الوالِدَيْنِ اللازِمَةِ لَهُما مِنَ التَوْقِيرِ والصَوْنِ والإنْفاقِ -إذا احْتاجا- واجِبٌ، وسائِرُ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ البِرِّ، والإلْطافِ، وحُسْنِ القَوْلِ، والتَصَنُّعِ لَهُما (p-٥٤٦)مَندُوبٌ إلَيْهِ مُؤَكَّدٌ فِيهِ، وهو البِرُّ الَّذِي تُفَضَّلُ فِيهِ الأُمُّ عَلى الأبِ، "حَسَبَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لِلَّذِي قالَ لَهُ: «مَن أبَرُّ؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ: ثُمَّ مَن؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ: ثُمَّ مَن؟ قالَ: أُمَّكَ، قالَ ثُمَّ مَن؟ قالَ: أباكَ، ثُمَّ الأقْرَبَ فالأقْرَبَ"، وفي رِوايَةٍ: "ثُمَّ أدْناكَ أدْناكَ".» وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ "إحْسانٌ" بِالرَفْعِ. وذُو القُرْبى: هو القَرِيبُ النَسَبِ مِن قِبَلِ الأبِ والأُمِّ، وهَذا مِنَ الأمْرِ بِصِلَةِ الرَحِمِ وحِفْظِها، و"واليَتامى": جَمْعُ يَتِيمٍ، وهو فاقِدُ الأبِ قَبْلَ البُلُوغِ، وإنْ ورَدَ في كَلامِ العَرَبِ يُتْمٌ مِن قِبَلِ الأُمِّ فَهو مَجازٌ واسْتِعارَةٌ، "والمَساكِينِ": المُقَتَّرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَحِلُّ لَهُمُ الزَكاةُ، وجاهَرُوا بِالسُؤالِ. واخْتُلِفَ في مَعْنى "والجارِ ذِي القُرْبى" وفي مَعْنى "الجُنُبِ"- فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وغَيْرُهُمُ: الجارُ ذُو القُرْبى هو الجارُ القَرِيبُ النَسَبِ، والجارُ الجُنُبُ هو الجارُ الأجْنَبِيُّ الَّذِي لا قَرابَةَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ. وقالَ نَوْفٌ الشامِيُّ: الجارُ ذُو القُرْبى هو الجارُ المُسْلِمُ، والجارُ الجُنُبُ هو الجارُ اليَهُودِيُّ أوِ النَصْرانِيُّ، فَهي عِنْدَهُ قَرابَةُ الإسْلامِ، وأجْنَبِيَّةُ الكُفْرِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الجارُ ذُو القُرْبى هو الجارُ القَرِيبُ المَسْكَنِ مِنكَ، والجارُ الجُنُبُ هو البَعِيدُ المَسْكَنِ مِنكَ، وكَأنَّ هَذا القَوْلَ مُنْتَزَعٌ مِنَ الحَدِيثِ. "قالَتْ عائِشَةُ: «يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لِي جارَيْنِ، فَإلى أيِّهِما أُهْدِي؟ قالَ: إلى أقْرَبِهِما مِنكِ بابًا.» (p-٥٤٧)واخْتَلَفَ الناسُ في حَدِّ الجِيرَةِ، فَقالَ الأوزاعِيُّ: أرْبَعُونَ دارًا مِن كُلِّ ناحِيَةٍ جِيرَةٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَن سَمِعَ إقامَةَ الصَلاةِ فَهو جارُ ذَلِكَ المَسْجِدِ، وبِقَدْرِ ذَلِكَ في الدُورِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَن ساكَنَ رَجُلًا في مَحَلَّةٍ أو مَدِينَةٍ فَهو جارُهُ. والمُجاوَرَةُ مَراتِبٌ بَعْضُها ألْصَقُ مِن بَعْضٍ، أدْناها الزَوْجُ، كَما قالَ الأعْشى: ؎ أيا جارَتِي بِينِي............................. وبُعْدُ ذَلِكَ الجِيرَةِ الخُلُطُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ سائِلْ مُجاوِرَ جَرْمٍ هَلْ جَنَيْتَ لَها ∗∗∗ حَرْبًا تُفَرِّقُ بَيْنَ الجِيرَةِ الخُلُطِ وحَكى الطَبَرِيُّ عن مَيْمُونَ بْنِ مَهْرانَ أنَّ الجارَ ذا القُرْبى أُرِيدَ بِهِ جارُ القَرِيبِ، وهَذا خَطَأٌ في اللِسانِ، لِأنَّهُ جَمَعَ -عَلى تَأْوِيلِهِ- بَيْنَ الألِفِ واللامِ والإضافَةِ، وكَأنَّ وجْهَ الكَلامِ: وجارِ ذِي القُرْبى. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "والجارَ ذا القُرْبى" بِنَصْبِ "الجارِ"، وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ وهْبٍ أنَّهُ قالَ عن بَعْضِ الصَحابَةِ في الجارِ الجُنُبِ:: إنَّها زَوْجَةُ الرَجُلِ، ورَوى المُفَضَّلُ عن عاصِمٍ أنَّهُ قَرَأ: "والجارِ الجَنْبِ" بِفَتْحِ الجِيمِ وسُكُونِ النُونِ. و"الجُنُبِ" في هَذِهِ الآيَةِ مَعْناهُ: البَعِيدُ: والجَنابَةُ: البُعْدُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ وهو الأعْشى: ؎ أتَيْتُ حُرَيْثًا زائِرًا عن جَنابَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ فَكانَ حُرَيْثٌ عن عَطائِي جامِدا (p-٥٤٨)وَمِنهُ قَوْلُ الآخَرِ، وهو عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ: ؎ فَلا تَحْرِمَنِّي نائِلًا عن جَنابَةٍ ∗∗∗ فَإنِّي امْرُؤٌ وسْطَ القِبابِ غَرِيبُ وهُوَ مِنَ الاجْتِنابِ، وهو أنْ يُتْرَكَ الشَيْءُ جانِبًا، وسُئِلَ أعْرابِيٌّ عَنِ الجارِ الجُنُبِ فَقالَ: هو الَّذِي يَجِيءُ فَيَحِلُّ حَيْثُ تَقَعُ عَيْنُكَ عَلَيْهِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: جُنُبٌ: صِفَةٌ كَناقَةٍ أُجُدٍ، ومِشْيَةٍ سُجُحٍ، وجُنُبُ التَطَهُّرِ مَأْخُوذٌ مِنَ الجَنْبِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، ومُجاهِدٌ، والضَحّاكُ: "والصاحِبُ بِالجَنْبِ" هُوَ: الرَفِيقُ في السَفَرِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: الصاحِبُ بِالجَنْبِ: الزَوْجَةُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو الرَجُلُ يَعْتَرِيكَ ويُلِمُّ بِكَ لِتَنْفَعَهُ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ « "أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِن أصْحابِهِ وهُما عَلى راحِلَتَيْنِ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ غَيْضَةً فَقَطَعَ قَضِيبَيْنِ أحَدُهُما مُعْوَجٌّ، وخَرَجَ فَأعْطى صاحِبَهُ القَوِيمَ، وحَبَسَ هو المُعْوَجَّ، فَقالَ لَهُ الرَجُلُ: كُنْتَ يا رَسُولَ اللهِ أحَقَّ بِهَذا، فَقالَ لَهُ: يا فُلانُ، إنَّ كُلَّ صاحِبٍ يَصْحَبُ آخَرَ فَإنَّهُ مَسْؤُولٌ عن صُحْبَتِهِ ولَوْ ساعَةً مِن نَهارٍ".» (p-٥٤٩)وَقالَ المُفَسِّرُونَ: ابْنُ السَبِيلِ: هو المُسافِرُ عَلى ظَهْرِ طَرِيقِهِ، وسُمِّيَ ابْنَهُ لِلُزُومِهِ لَهُ، كَما قِيلَ: ابْنُ ماءٍ لِلطّائِرِ المُلازِمِ لِلْماءِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ ابْنُ زِنىً"» أيْ: مُلازِمُهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِالمُثابَرَةِ عَلَيْهِ أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ مُجاهِدًا فَسَّرَهُ بِأنَّهُ المارُّ عَلَيْكَ في سَفَرِهِ، وأنَّ قَتادَةَ وغَيْرَهُ- فَسَّرَهُ بِأنَّهُ الضَيْفُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ قَوْلٌ واحِدٌ. "وَما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ" يُرِيدُ العَبِيدَ الأرِقّاءَ، ونَسَبَ المِلْكَ إلى اليَمِينِ إذْ هي في المُعْتادِ جارِحَةُ البَطْشِ والتَغَلُّبِ والتَمَلُّكِ، فَأُضِيفَتْ هَذِهِ المَعانِي -وَإنْ لَمْ تَكُنْ بِها- إلَيْها تَجَوُّزًا والعَبِيدُ مُوصىً بِهِمْ في غَيْرِ ما حَدِيثٍ يَطُولُ ذِكْرُها، ويُغْنِي عن ذَلِكَ اشْتِهارُها. ومَعْنى: "يُحِبُّ" -فِي هَذِهِ الآيَةِ-: لا تَظْهَرُ عَلَيْهِ آثارُ نِعَمِهِ في الآخِرَةِ، ولا آثارُ حَمْدِهِ في الدُنْيا، فَهي المَحَبَّةُ الَّتِي هي صِفَةُ فِعْلٍ، أبْعَدَها عَمَّنْ صِفَتُهُ الخُيَلاءُ والفَخْرُ، يُقالُ: خالَ الرَجُلُ يَخُولُ خَوْلًا إذا تَكَبَّرَ وأُعْجِبَ بِنَفْسِهِ، وأنْشَدَ الطَبَرِيُّ: ؎ فَإنْ كُنْتَ سَيِّدَنا سُدْتَنا ∗∗∗ وإنْ كُنْتَ لِلْخالِ فاذْهَبْ فَخَلْ (p-٥٥٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ونَفْيُ المَحَبَّةِ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ضَرْبٌ مِنَ التَوَعُّدِ، وخَصَّ هاتَيْنِ الصِفَتَيْنِ هُنا إذْ مُقْتَضاهُما العُجْبُ والزَهْوُ، وذَلِكَ هو الحامِلُ عَلى الإخْلالِ بِالأصْنافِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ أمْرُ اللهِ بِالإحْسانِ إلَيْهِمْ. ولِكُلِّ صِنْفٍ نَوْعٌ مِنَ الإحْسانِ يَخْتَصُّ بِهِ، ولا يَعُوقُ عَنِ الإحْسانِ إلَيْهِمْ إلّا العُجْبُ أوِ البُخْلُ، فَلِذَلِكَ نَفى اللهُ مَحَبَّتَهُ عَنِ المُعْجَبِينَ والباخِلِينَ عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ حَسْبَما نَذْكُرُهُ الآنَ بَعْدَ هَذا، وقالَ أبُو رَجاءٍ الهَرَوِيُّ: لا تَجِدُهُ سَيِّءَ المَلَكَةِ إلّا وجَدْتَهُ مُخْتالًا فَخُورًا، ولا عاقًّا إلّا وجَدْتَهُ جَبّارًا شَقِيًّا، والفَخْرُ: عَدُّ المَناقِبِ تَطاوُلًا بِذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب