الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عن تَراضٍ مِنكم ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكم إنَّ اللهَ كانَ بِكم رَحِيمًا﴾ ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارًا وكانَ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسِيرًا﴾ هَذا اسْتِثْناءٌ لَيْسَ مِنَ الأوَّلِ، والمَعْنى: لَكِنْ إنْ كانَتْ تِجارَةً فَكُلُوها. وقَرَأ المَدَنِيُّونَ، وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "تِجارَةٌ" بِالرَفْعِ عَلى تَمامِ "أنْ" وأنَّها بِمَعْنى: وقَعَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ هي الكُوفِيُّونَ: حَمْزَةُ، وعاصِمٌ، (p-٥٢٨)والكِسائِيُّ: "تِجارَةً" بِالنَصْبِ عَلى نُقْصانِ "كانَ" وهو اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدٍ. وهُما قَوْلانِ قَوِيّانِ، إلّا أنَّ تَمامَ "كانَ" يَتَرَجَّحُ عِنْدَ بَعْضٍ، لِأنَّها صِلَةٌ لِـ "أنْ" فَهي مَحْطُوطَةٌ عن دَرَجَتِها إذا كانَتْ سَلِيمَةً مِن صِلَةٍ وغَيْرِها، وهَذا تَرْجِيحٌ لَيْسَ بِالقَوِيِّ، ولَكِنَّهُ حَسَنٌ، و"أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ. ومَن نَصَبَ "تِجارَةً" جَعَلَ اسْمَ "كانَ" مُضْمَرًا تَقْدِيرُهُ: الأمْوالُ أمْوالُ تِجارَةٍ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، أو يَكُونُ التَقْدِيرُ: إلّا أنْ تَكُونَ التِجارَةُ تِجارَةً، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ...... إذا كانَ يَوْمًا ذا كَواكِبَ أشْنَعا أيْ: إذا كانَ اليَوْمُ يَوْمًا، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ في كُلِّ تَقْدِيرٍ، وفي قِراءَةِ الرَفْعِ. فَأكْلُ الأمْوالِ بِالتِجارَةِ جائِزٌ بِإجْماعِ الأُمَّةِ، والجُمْهُورُ عَلى جَوازِ الغَبْنِ في التِجارَةِ، مِثالُ ذَلِكَ: أنْ يَبِيعَ الرَجُلُ ياقُوتَةً بِدِرْهَمٍ وهي تُساوِي مِائَةً، فَذَلِكَ جائِزٌ، ويُعَضِّدُهُ حَدِيثُ النَبِيِّ ﷺ « "لا يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ"،» لِأنَّهُ إنَّما أرادَ بِذَلِكَ أنْ يَبِيعَ البادِي بِاجْتِهادِهِ، ولا يَمْنَعَ الحاضِرُ الحاضِرَ مِن رِزْقِ اللهِ في غَبْنِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الغَبْنُ إذا تَجاوَزَ الثُلُثَ مَرْدُودٌ، وإنَّما أُبِيحَ مِنهُ المُتَقارِبُ المُتَعارَفُ في التِجاراتِ، وأمّا المُتَفاحِشُ الفادِحُ فَلا، وقالَهُ ابْنُ وهْبٍ مِن أصْحابِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ. و"عن تَراضٍ" مَعْناهُ: عن رِضا، إلّا أنَّها جاءَتْ مِنَ المُفاعَلَةِ، إذِ التِجارَةُ مِنِ اثْنَيْنِ، واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في التَراضِي، فَقالَتْ طائِفَةٌ: تَمامُهُ وجَزْمُهُ بِافْتِراقِ الأبْدانِ بَعْدَ عُقْدَةِ البَيْعِ، أو بِأنْ يَقُولَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: اخْتَرْ، فَيَقُولَ: قَدِ اخْتَرْتُ، وذَلِكَ بَعْدَ العُقْدَةِ أيْضًا، فَيَنْجَزِمُ حِينَئِذٍ، هَذا هو قَوْلُ الشافِعِيِّ وجَماعَةٍ مِنَ الصَحابَةِ، (p-٥٢٩)وَحُجَّتُهُ حَدِيثُ النَبِيِّ ﷺ « "البَيِّعانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا إلّا بَيْعَ الخِيارِ"»، وهو حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وأبِي بَرْزَةَ، ورَأْيُهُما -وَهُما الراوِيانِ- أنَّهُ افْتِراقُ الأبْدانِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والتَفَرُّقُ لا يَكُونُ حَقِيقَةً إلّا بِالأبْدانِ، لِأنَّهُ مِن صِفاتِ الجَواهِرِ. وقالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُما اللهُ: تَمامُ التَراضِي أنْ يُعْقَدَ البَيْعُ بِالألْسِنَةِ فَتَنْجَزِمَ العُقْدَةُ بِذَلِكَ ويَرْتَفِعَ الخِيارُ، وقالا في الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ: إنَّهُ التَفَرُّقُ بِالقَوْلِ، واحْتَجَّ بَعْضُهم بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلا مِن سَعَتِهِ﴾ [النساء: ١٣٠]، فَهَذِهِ فُرْقَةٌ بِالقَوْلِ لِأنَّها بِالطَلاقِ. قالَ مَنِ احْتَجَّ لِلشّافِعِيِّ: بَلْ هي فُرْقَةٌ بِالأبْدانِ، بِدَلِيلِ تَثْنِيَةِ الضَمِيرِ. والطَلاقُ لا حَظَّ لِلْمَرْأةِ فِيهِ، وإنَّما حَظُّها في فُرْقَةِ البَدَنِ الَّتِي هي ثَمَرَةُ الطَلاقِ، قالَ الشافِعِيُّ: ولَوْ كانَ مَعْنى قَوْلِهِ: "يَتَفَرَّقا" بِالقَوْلِ الَّذِي هو العَقْدُ لَبَطَلَتِ الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: « "البَيِّعانِ بِالخِيارِ"،» لِأنَّهُ لا يُشَكُّ في أنَّ كُلَّ ذِي سِلْعَةٍ مُخَيَّرٌ ما لَمْ يَعْقِدْ، فَجاءَ الإخْبارُ لا طائِلَ فِيهِ. قالَ مَنِ احْتَجَّ لِمالِكٍ: إنَّما القَصْدُ في الحَدِيثِ الإخْبارُ عن وُجُوبِ ثُبُوتِ العَقْدِ، فَجاءَ قَوْلُهُ: « "البَيِّعانِ بِالخِيارِ"» تَوْطِئَةً لِذَلِكَ، وإنْ كانَتِ التَوْطِئَةُ مَعْلُومَةً فَإنَّها تُهَيِّئُ النَفْسَ لِاسْتِشْعارِ ثُبُوتِ العَقْدِ ولُزُومِها. واسْتَدَلَّ الشافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "لا يَسُمِ الرَجُلُ عَلى سَوْمِ أخِيهِ، ولا يَبِعِ الرَجُلُ عَلى بَيْعِ أخِيهِ"» فَجَعَلَها مَرْتَبَتَيْنِ، لِأنَّ حالَةَ البَيِّعَيْنِ بَعْدَ العَقْدِ قَبْلَ التَفَرُّقِ تَقْتَضِي أنْ يُفْسِدَ مُفْسِدٌ بِزِيادَةٍ في السِلْعَةِ فَيَخْتارَ رَبُّها حَلَّ الصَفْقَةِ الأُولى، فَنَهى (p-٥٣٠)النَبِيُّ ﷺ عن ذَلِكَ الإفْسادِ، ألا تَرى أنَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ قالَ: « "لا يَخْطُبُ الرَجُلُ عَلى خِطْبَةِ أخِيهِ"،» فَهي في دَرَجَةِ: « "لا يَسُمْ"،» ولَمْ يَقُلْ: لا يَنْكِحُ عَلى نِكاحِ أخِيهِ". لِأنَّهُ لا دَرَجَةَ بَعْدَ عَقْدِ النِكاحِ تَقْتَضِي تَخْيِيرًا بِإجْماعٍ مِنَ الأُمَّةِ. قالَ مَن يَحْتَجُّ لِمالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "لا يَسُمْ"» و« "لا يَبِعْ"» هي دَرَجَةٌ واحِدَةٌ كُلُّها قَبْلَ العَقْدِ، وقالَ: « "لا يَبِعْ"» تَجَوُّزًا فِي: « "لا يَسُمْ"،» إذْ مَآلُهُ إلى البَيْعِ، فَهي جَمِيعًا بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: « "لا يَخْطُبُ"،» والعَقْدُ جازِمٌ فِيهِما جَمِيعًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَوْلُهُ في الحَدِيثِ: « "إلّا بَيْعَ الخِيارِ"» مَعْناهُ عِنْدَ المالِكِيِّينَ: المُتَساوِمانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَعْقِدا، فَإذا عَقَدا بَطَلَ الخِيارُ، إلّا في بَيْعِ الخِيارِ الَّذِي عُقِدَ مِن أوَّلِهِ عَلى خِيارِ مُدَّةٍ ما، فَإنَّهُ لا يَبْطُلُ الخِيارُ فِيهِ. ومَعْناهُ عِنْدَ الشافِعِيِّينَ: المُتَبايِعانِ -بَعْدَ عَقْدِهِما- مُخَيَّرانِ ما داما في مَجْلِسِهِما، إلّا بَيْعًا يَقُولُ فِيهِ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيَخْتارُ، فَإنَّ الخِيارَ يَنْقَطِعُ بَيْنَهُما وإنْ لَمْ يَتَفَرَّقا، فَإنْ فُرِضَ بَيْعُ خِيارٍ فالمَعْنى: إلّا بَيْعَ الخِيارِ فَإنَّهُ يَبْقى الخِيارُ بَعْدَ التَفَرُّقِ بِالأبْدانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾، قَرَأ الحَسَنُ: "وَلا تُقَتِّلُوا" عَلى التَكْثِيرِ، فَأجْمَعَ المُتَأوِّلُونَ أنَّ المَقْصِدَ بِهَذِهِ الآيَةِ النَهْيُ عن أنْ يَقْتُلَ بَعْضُ الناسِ بَعْضَها، ثُمَّ لَفْظُها يَتَناوَلُ أنْ يَقْتُلَ الرَجُلُ نَفْسَهُ بِقَصْدٍ مِنهُ لِلْقَتْلِ، أو بِأنْ يَحْمِلَها عَلى غَرَرٍ رُبَّما ماتَ مِنهُ، فَهَذا كُلُّهُ يَتَناوَلُهُ النَهْيُ، وقَدِ احْتَجَّ عَمْرُو بْنُ العاصِ بِهَذِهِ الآيَةِ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الاغْتِسالِ بِالماءِ البارِدِ خَوْفًا عَلى نَفْسِهِ مِنهُ، فَقَرَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ احْتِجاجَهُ. (p-٥٣١)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوانًا وظُلْمًا﴾، اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في المُشارِ إلَيْهِ بِـ "ذَلِكَ" فَقالَ عَطاءٌ: "ذَلِكَ" عائِدٌ عَلى القَتْلِ، لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "ذَلِكَ" عائِدٌ عَلى أكْلِ المالِ بِالباطِلِ وقَتْلِ النَفْسِ، لِأنَّ النَهْيَ عنهُما جاءَ مُتَّسِقًا مَسْرُودًا، ثُمَّ ورَدَ الوَعِيدُ حَسَبَ النَهْيِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "ذَلِكَ" عائِدٌ عَلى كُلِّ ما نَهى عنهُ مِنَ القَضايا مِن أوَّلِ السُورَةِ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ وقالَ الطَبَرِيُّ: "ذَلِكَ" عائِدٌ عَلى ما نَهى عنهُ مِن آخِرِ وعِيدٍ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِساءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩]، لِأنَّ كُلَّ ما نُهِيَ عنهُ مِن أوَّلِ السُورَةِ قُرِنَ بِهِ وعِيدٌ إلّا مِن قَوْلِهِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِساءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩] فَإنَّهُ والنَواهِيَ بَعْدَهُ لا وعِيدَ مَعَها إلّا قَوْلَهُ: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوانًا وظُلْمًا﴾. والعُدْوانُ: تَجاوُزُ الحَدِّ. و"نُصْلِيهِ" مَعْناهُ: نُمِسُّهُ حَرَّها كَما تُعْرَضُ الشاةُ المَصْلِيَّةُ، أيْ: نَحْرِقُهُ بِها. وقَرَأ الأعْمَشُ والنَخْعِيُّ: "نَصْلِيهِ" بِفَتْحِ النُونِ، وقِراءَةُ الجُمْهُورِ بِضَمِّ النُونِ عَلى نَقْلِ صَلِيَ بِالهَمْزِ، وقِراءَةُ هَذَيْنِ عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: صَلَّيْتُهُ نارًا بِمَعْنى: أصْلَيْتُهُ، وحَكى الزَجّاجُ أنَّها قَدْ قُرِئَتْ: "نُصَلِّيهِ" بِفَتْحِ الصادِ وشَدِّ اللامِ المَكْسُورَةِ، ويَسِيرٌ ذَلِكَ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، لِأنَّ حُجَّتَهُ بالِغَةٌ وحُكْمَهُ لا مُعَقِّبَ لَهُ:.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب