الباحث القرآني

(p-٥٢٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم ويَتُوبَ عَلَيْكم واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿واللهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكم ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَهَواتِ أنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا﴾ ﴿يُرِيدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ اخْتَلَفَ النُحاةُ في اللامِ مِن قَوْلِهِ: "لِيُبَيِّنَ" -فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ- رَحِمَهُ اللهُ: أنَّ التَقْدِيرَ: لِأنْ يُبَيِّنَ، والمَفْعُولُ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: يُرِيدُ اللهُ هَذا، فَإنْ كانَتْ لامَ الجَرِّ أو لامَ كَيْ فَلا بُدَّ فِيهِما مِن تَقْدِيرِ "أنْ" لِأنَّهُما لا يَدْخُلانِ إلّا عَلى الأسْماءِ. وقالَ الفَرّاءُ والكُوفِيُّونَ: اللامُ نَفْسُها بِمَنزِلَةِ "أنْ" وهو ضَعِيفٌ. ونَظِيرُ هَذِهِ اللامِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها........................ وقالَ بَعْضُ النُحاةِ: إرادَتِي لِأنْسى. "وَيَهْدِيَكُمْ" بِمَعْنى: يُرْشِدُكُمْ، لا يَتَوَجَّهُ غَيْرَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ السُنَنِ. والسُنَنُ: الطُرُقُ ووُجُوهُ الأُمُورِ وأنْحاؤُها. (p-٥٢٦)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَظْهَرُ مِن قُوَّةِ هَذا الكَلامِ أنَّ شِرْعَتَنا في المَشْرُوعاتِ كَشِرْعَةِ مَن قَبْلَنا، ولَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وإنَّما هَذِهِ الهِدايَةُ في أحَدِ أمْرَيْنِ: إمّا في أنّا خُوطِبْنا في كُلِّ قِصَّةٍ نَهْيًا وأمْرًا، كَما خُوطِبُوا هم أيْضًا في قِصَصِهِمْ، وشُرِعَ لَنا كَما شُرِعَ لَهُمْ، فَهُدِينا سُنَنَهم في ذَلِكَ وإنِ اخْتَلَفَتْ أحْكامُنا وأحْكامُهُمْ، والأمْرُ الثانِي أنَّ هَدْيَنا سُنَنَهم في أنْ أطَعْنا وسَمِعْنا كَما سَمِعُوا وأطاعُوا، فَوَقَعَ التَماثُلُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ. والَّذِينَ مِن قَبْلِنا: هُمُ المُؤْمِنُونَ في كُلِّ شَرِيعَةٍ. وتَوْبَةُ اللهِ عَلى عَبْدِهِ هي رُجُوعُهُ بِهِ عَنِ المَعاصِي إلى الطاعاتِ، وتَوْفِيقُهُ لَهُ. وحَسُنَ "عَلِيمٌ" هُنا بِحَسَبِ ما تَقَدَّمَ مِن سُنَنِ الشَرائِعِ ومَوْضِعِ المَصالِحِ، و"حَكِيمٌ" أيْ: مُصِيبٌ بِالأشْياءِ مَواضِعَها بِحَسَبِ الحِكْمَةِ والإتْقانِ. وتَكْرارُ إرادَةِ اللهِ تَعالى التَوْبَةَ عَلى عِبادِهِ تَقْوِيَةٌ لِلْإخْبارِ الأوَّلِ، ولَيْسَ المَقْصِدُ في هَذِهِ الآيَةِ إلّا الإخْبارَ عن إرادَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَهَواتِ، فَقُدِّمَتْ إرادَةُ اللهِ تَوْطِئَةً مُظْهِرَةً لِفَسادِ إرادَةِ مُتَّبِعِي الشَهَواتِ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في مُتَّبِعِي الشَهَواتِ، فَقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ الزُناةُ. وقالَ السُدِّيُّ: هُمُ اليَهُودُ والنَصارى، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هُمُ اليَهُودُ خاصَّةً، لِأنَّهم أرادُوا أنْ يَتَّبِعَهُمُ المُسْلِمُونَ في نِكاحِ الأخَواتِ مِنَ الأبِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَلِكَ عَلى العُمُومِ في هَؤُلاءِ، وفي كُلِّ مُتَّبِعٍ شَهْوَةً، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ "مَيْلًا" بِسُكُونِ الياءِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "مَيَلًا" بِفَتْحِ الياءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عنكُمْ﴾، المَقْصِدُ الظاهِرُ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّها في (p-٥٢٧)تَخْفِيفِ اللهِ تَعالى تَرْكَ نِكاحِ الإماءِ بِإباحَةِ ذَلِكَ، وأنَّ إخْبارَهُ عن ضَعْفِ الإنْسانِ إنَّما هو في بابِ النِساءِ، أيْ: لَمّا عَلِمْنا ضَعْفَكم عَنِ الصَبْرِ عَنِ النِساءِ خَفَّفْنا عنكم بِإباحَةِ الإماءِ، وكَذَلِكَ قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وطاوُسُ. وقالَ طاوُسُ: لَيْسَ يَكُونُ الإنْسانُ في شَيْءٍ أضْعَفَ مِنهُ في أمْرِ النِساءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ثُمَّ بَعْدَ هَذا المَقْصِدِ تَخْرُجُ الآيَةُ في مَخْرَجِ التَفَضُّلِ، لِأنَّها تَتَناوَلُ كُلَّ ما خَفَّفَ اللهُ تَعالى عن عِبادِهِ، وجَعْلَهُ الدِينَ يُسْرًا، ويَقَعُ الإخْبارُ عن ضَعْفِ الإنْسانِ عامًّا حَسْبَما هو في نَفْسِهِ ضَعِيفٌ يَسْتَمِيلُهُ هَواهُ في الأغْلَبِ. و"الإنْسانُ" رُفِعَ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، و"ضَعِيفًا" حالٌ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: "وَخَلْقُ الإنْسانِ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، و"ضَعِيفًا" حالٌ أيْضًا عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ و"خُلِقَ" بِمَعْنى جُعِلَ فَيُكْسِبُها ذَلِكَ قُوَّةَ التَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "ضَعِيفًا" مَفْعُولًا ثانِيًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب