الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ لَمّا مَضى في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ حُكْمُ الفِراقِ الَّذِي سَبَبُهُ المَرْأةُ، وأنَّ لِلزَّوْجِ أخْذَ المالِ مِنها، عَقِبَ ذَلِكَ ذَكَرَ الفِراقَ الَّذِي سَبَبُهُ الزَوْجُ، والمَنعَ مِن أخْذِ مالِها مَعَ ذَلِكَ، فَهَذا الَّذِي في هَذِهِ الآيَةِ هو الَّذِي يَخْتَصُّ الزَوْجُ بِإرادَتِهِ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ: إذا كانَ الزَوْجانِ يُرِيدانِ الفِراقَ، وكانَ مِنهُما نُشُوزٌ وسُوءُ عِشْرَةٍ، فَقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: لِلزَّوْجِ أنْ يَأْخُذَ مِنها إذا سَبَّبَتِ الفِراقَ، ولا يُراعى تَسْبِيبُهُ هُوَ، (p-٥٠٣)وَقالَتْ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: لا يَجُوزُ لَهُ أخْذُ المالِ إلّا أنْ تَنْفَرِدَ هي بِالنُشُوزِ وبِظُلْمِهِ في ذَلِكَ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: يَخْرُجُ في هَذِهِ الآيَةِ جَوازُ المُغالاةِ بِالمُهُورِ، لِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ مَثَّلَ بِقِنْطارٍ، ولا يُمَثِّلُ تَعالى إلّا بِمُباحٍ. وخَطَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَقالَ: ألا لا تُغالُوا بِمُهُورِ نِسائِكُمْ، فَإنَّ الرَجُلَ يُغالِي حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ في قَلْبِهِ عَداوَةً لِلْمَرْأةِ، يَقُولُ: تَجَشَّمْتُ إلَيْكِ عَلَقَ القِرْبَةِ أو عَرَقَ القِرْبَةِ، فَيُرْوى أنَّ امْرَأةً كَلَّمَتْهُ مِن وراءِ الناسِ فَقالَتْ: كَيْفَ هَذا؟ واللهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وَآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا﴾ قالَ: فَأطْرَقَ عُمَرُ ثُمَّ قالَ: "كُلُّ الناسِ أفْقَهُ مِنكَ يا عُمَرُ". ويُرْوى أنَّهُ قالَ: "امْرَأةٌ أصابَتْ ورَجُلٌ أخْطَأ"، واللهُ المُسْتَعانُ، وتَرَكَ الإنْكارَ. وقالَ قَوْمٌ: لا تُعْطِي الآيَةُ جَوازَ المُغالاةِ بِالمُهُورِ لِأنَّ التَمْثِيلَ جاءَ عَلى جِهَةِ المُبالَغَةِ، كَأنَّهُ قالَ: وآتَيْتُمْ هَذا القَدْرَ العَظِيمَ الَّذِي لا يُؤْتِيهِ أحَدٌ، وهَذا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ: « "مَن بَنى لِلَّهِ مَسْجِدًا ولَوْ كَمَفْحَصِ قَطاةٍ "لِبَيْضِها" بَنى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ"» فَمَعْلُومٌ أنَّهُ لا يَكُونُ مَسْجِدٌ كَمَفْحَصٍ، وقَدْ «قالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لِابْنِ أبِي حَدْرَدٍ -وَقَدْ جاءَ يَسْتَعِينُهُ في مَهْرِهِ- فَسَألَهُ عَنِ المَهْرِ، فَقالَ: مِائَتَيْنِ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وقالَ: "كَأنَّكم تَقْطَعُونَ الذَهَبَ والفِضَّةَ مِن عَرْضِ الحَرَّةِ أو جَبَلٍ"...» الحَدِيثُ فاسْتَقْرَأ بَعْضُ الناسِ مِن هَذا مَنعَ المُغالاةِ بِالمُهُورِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا يَلْزَمُ، لِأنَّ هَذا أحْوَجَ نَفْسَهُ إلى الِاسْتِعانَةِ والسُؤالِ، وذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِاتِّفاقٍ، وإنَّما المُغالاةُ المُخْتَلَفُ فِيها مَعَ الغِنى وسَعَةِ المالِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِوَصْلِ ألِفِ "احْداهُنَّ" وهي لُغَةٌ تُحْذَفُ عَلى جِهَةِ التَخْفِيفِ. ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ................... وتَسْمَعُ مِن تَحْتِ العَجاجِ لَها ازْمِلا (p-٥٠٤)وَقَوْلُ الآخَرِ: ؎ إنْ لَمْ أُقاتِلْ فالبِسُونِي بُرْقُعًا وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في قَدْرِ القِنْطارِ في سُورَةِ [آلِ عِمْرانَ]، وقَرَأ أبُو السَمّالِ "مِنهُ شَيَئًا" بِفَتْحِ الياءِ والتَنْوِينِ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ. والبُهْتانُ: مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، ومَعْناهُ: مُبْهَتًا مُحَيَّرًا لِشُنْعَتِهِ وقُبْحِ الأُحْدُوثَةِ والفَعْلَةِ فِيهِ. ثُمَّ وعَظَ تَعالى عِبادَهُ مُذَكِّرًا لَهم بِالمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَ الزَوْجَيْنِ المُوجِبَةِ لِحِياطَةِ مالِ المَرْأةِ، إذْ قَدْ أُخِذَ مِنها العِوَضُ عَمّا أُعْطِيَتْهُ، و"كَيْفَ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ وأفْضى مَعْناهُ: باشَرَ وجاوَزَ أقْصى المُجاوَزَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ بِلىً وثَأىً أفْضى إلى كُلِّ كَتْبَةٍ ∗∗∗ بَدا سَيْرُها مِن ظاهِرٍ بَعْدَ باطِنِ وفِي المَثَلِ "الناسُ فَوْضى فَضًا"، أيْ: مُخْتَلِطُونَ يُباشِرُ بَعْضُهم أمْرَ بَعْضٍ، وتَقُولُ: أفْضَتِ الحالُ إلى كَذا أيْ: صارَتْ إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمُ: الإفْضاءُ في هَذِهِ الآيَةِ: الجِماعُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ولَكِنَّ اللهَ كَرِيمٌ يُكَنِّي. واخْتَلَفَ الناسُ في المُرادِ بِالمِيثاقِ الغَلِيظِ؛ فَقالَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ وقَتادَةُ والضَحّاكُ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمْ: هو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بِإحْسانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: المِيثاقُ الغَلِيظُ: عُقْدَةُ النِكاحِ، وقَوْلُ الرَجُلِ: نَكَحْتَ ومَلَكْتَ (p-٥٠٥)النِكاحَ ونَحْوُهُ، فَهَذِهِ الَّتِي بِها تُسْتَحَلُّ الفُرُوجُ. «وَقالَ عِكْرِمَةُ والرَبِيعُ، المِيثاقُ الغَلِيظُ يُفَسِّرُهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: "اسْتَوْصُوا بِالنِساءِ خَيْرًا، فَإنَّهُنَّ عَوانٌ عِنْدَكُمْ، أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلامِ اللهِ"» وقالَ قَوْمٌ: المِيثاقُ الغَلِيظُ: الوَلَدُ. ومِن شاذِّ الأقْوالِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ بَكْرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ المُزْنِيَّ قالَ: لا يَجُوزُ أنْ يُؤْخَذَ مِنَ المُخْتَلِعَةِ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ، وإنْ كانَتْ هي المُرِيدَةَ لِلطَّلاقِ، ومِنها أنَّ ابْنَ زَيْدٍ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى في [سُورَةِ البَقَرَةِ] ﴿وَلا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيما حُدُودَ اللهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩]...الآيَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الآياتِ ناسِخٌ ولا مَنسُوخٌ، وكُلُّها يَنْبَنِي بَعْضُها مَعَ بَعْضٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب