الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ ورُسُلِهِ ولَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنهم أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهم وكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ﴿يَسْألُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَماءِ فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْهُمُ الصاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنَ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ فَعَفَوْنا عن ذَلِكَ وآتَيْنا مُوسى سُلْطانًا مُبِينًا﴾ لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى أنَّ المُفَرِّقِينَ بَيْنَ الرُسُلِ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا؛ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ ورُسُلِهِ جَمِيعًا؛ وهُمُ المُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ لِيُصَرِّحَ بِوَعْدِ هَؤُلاءِ؛ كَما صَرَّحَ بِوَعِيدِ أُولَئِكَ؛ فَبَيَّنَ الفارِقَ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ؛ وقَرَأ بَعْضُ السَبْعَةِ: "سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ"؛ بِالياءِ؛ أيْ: يُؤْتِيهِمُ اللهُ؛ وقَرَأ الأكْثَرُ: "سَوْفَ نُؤْتِيهِمْ"؛ بِالنُونِ؛ مِنهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وأبُو عَمْرٍو. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في كَيْفِيَّةِ سُؤالِ أهْلِ الكِتابِ لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - أنْ (p-٥٧)يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتابًا مِنَ السَماءِ؛ فَقالَ السُدِّيُّ: قالَتِ اليَهُودُ: يا مُحَمَّدُ؛ إنْ كُنْتَ صادِقًا فَجِئْ بِكِتابٍ مِنَ السَماءِ؛ كَما جاءَ مُوسى بِكِتابٍ؛ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: قَدْ جاءَ مُوسى بِألْواحٍ فِيها التَوْراةُ؛ فَجِئْ أنْتَ بِألْواحٍ فِيها كِتابُكَ؛ وقالَ قَتادَةُ: بَلْ سَألُوهُ أنْ يَأْتِيَ بِكِتابٍ خاصٍّ لِلْيَهُودِ؛ يَأْمُرُهم فِيهِ بِالإيمانِ بِمُحَمَّدٍ؛ وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قالَتِ اليَهُودُ: يا مُحَمَّدُ؛ لَنْ نُتابِعَكَ عَلى ما تَدْعُونا إلَيْهِ حَتّى تَأْتِيَنا بِكِتابٍ مِن عِنْدِ اللهِ إلى فُلانٍ؛ وإلى فُلانٍ؛ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: فَقَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقْتَضِي أنَّ سُؤالَهم كانَ عَلى نَحْوِ سُؤالِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ القُرَشِيِّ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ﴾ ؛ عَلى جِهَةِ التَسْلِيَةِ لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ وعَرْضِ الأُسْوَةِ؛ وفي الكَلامِ مَتْرُوكٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ؛ تَقْدِيرُهُ: فَلا تُبالِ يا مُحَمَّدُ عن سُؤالِهِمْ؛ وتَشَطُّطِهِمْ؛ فَإنَّها عادَتُهُمْ؛ فَقَدْ سَألُوا مُوسى أكْبَرَ مِن ذَلِكَ؛ وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أكْبَرَ"؛ بِالباءِ المَنقُوطَةِ بِواحِدَةٍ؛ وقَرَأ الحَسَنُ: "أكْثَرَ"؛ بِالثاءِ المُثَلَّثَةِ؛ وجُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ عَلى أنَّ "جَهْرَةً"؛ مَعْمُولٌ لِـ "أرِنا"؛ أيْ: حَتّى نَراهُ جِهارًا؛ أيْ: عِيانًا؛ رُؤْيَةً مُنْكَشِفَةً بَيِّنَةً؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَرى أنَّ "جَهْرَةً"؛ مَعْمُولٌ لِـ "قالُوا"؛ أيْ: قالُوا جَهْرَةً مِنهُمْ؛ وتَصْرِيحًا: "أرِنا اللهَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وأهْلُ السُنَّةِ مُعْتَقِدُونَ أنَّ هَؤُلاءِ لَمْ يَسْألُوا مُحالًا عَقْلًا؛ لَكِنَّهُ مُحالٌ مِن جِهَةِ الشَرْعِ؛ إذْ قَدْ أخْبَرَ تَعالى عَلى ألْسِنَةِ أنْبِيائِهِ أنَّهُ لا يُرى في هَذِهِ الحَياةِ الدُنْيا؛ والرُؤْيَةُ في الآخِرَةِ ثابِتَةٌ عَنِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ؛ وهي (p-٥٨)جائِزَةٌ عَقْلًا؛ دُونَ تَحْدِيدٍ؛ ولا تَكْيِيفٍ؛ ولا تَحَيُّزٍ؛ كَما هو (تَعالى) مَعْلُومٌ لا كالمَعْلُوماتِ؛ كَذَلِكَ هو مَرْئِيٌّ لا كالمَرْئِيّاتِ؛ هَذِهِ حُجَّةُ أهْلِ السُنَّةِ وقَوْلُهُمْ؛ ولَقَدْ حَدَّثَنِي أبِي - رَحِمَهُ اللهُ - عن أبِي عَبْدِ اللهِ النَحْوِيِّ؛ أنَّهُ كانَ يَقُولُ - عِنْدَ تَدْرِيسِ هَذِهِ المَسْألَةِ -: "مِثالُ العِلْمِ بِاللهِ حَلَقَ لِحى المُعْتَزِلَةِ؛ في إنْكارِهِمُ الرُؤْيَةَ"؛ والجُمْلَةِ الَّتِي قالَتْ: "أرِنا اللهَ جَهْرَةً"؛ هي الَّتِي مَضَتْ مَعَ مُوسى لِحُضُورِ المُناجاةِ؛ وقَدْ تَقَدَّمَ قَصَصُها في سُورَةِ "اَلْبَقَرَةِ". وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَأخَذَتْهُمُ الصاعِقَةُ"؛ وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ ؛ وإبْراهِيمُ النَخَعِيُّ: "اَلصَّعْقَةُ"؛ والمَعْنى يَتَقارَبُ؛ إذْ ذَلِكَ كُلُّهُ عِبارَةٌ عَنِ الوَقْعِ الشَدِيدِ مِنَ الصَوْتِ؛ يُصِيبُ الإنْسانَ بِشِدَّتِهِ؛ وهو لَهُ خُمُودٌ؛ ورُكُودُ حَواسَّ؛ وظُلْمُهم هو تَعَنُّتُهُمْ؛ وسُؤالُهم ما لَيْسَ لَهم أنْ يَسْألُوهُ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ﴾ ؛ تَرْتِيبٌ في الإخْبارِ؛ لا في نَفْسِ الأمْرِ؛ التَقْدِيرُ: "ثُمَّ قَدْ كانَ مِن أمْرِهِمْ أنِ اتَّخَذُوا العِجْلَ؛ وذَلِكَ أنَّ اتِّخاذَ العِجْلَ كانَ عِنْدَ أمْرِ المُضِيِّ لِلْمُناجاةِ؛ فَلَمْ يَكُنِ الَّذِينَ صُعِقُوا مِمَّنِ اتَّخَذُوا العِجْلَ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُ كانُوا قَدْ جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ في أمْرِ إجازَةِ البَحْرِ؛ وأمْرِ العَصا؛ وغَرَقِ فِرْعَوْنَ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَعَفَوْنا عن ذَلِكَ﴾ ؛ يَعْنِي بِما امْتَحَنَهم بِهِ مِنَ القَتْلِ لِأنْفُسِهِمْ؛ ثُمَّ وقَعَ العَفْوُ عَنِ الباقِينَ مِنهُمْ؛ و"اَلسُّلْطانُ": اَلْحُجَّةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب