الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهم ولآمُرَنَّهم فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأنْعامِ ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ومَن يَتَّخِذِ الشَيْطانَ ولِيًّا مِن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا﴾ ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهم الشَيْطانُ إلا غُرُورًا﴾ ﴿أُولَئِكَ مَأْواهم جَهَنَّمُ ولا يَجِدُونَ عنها مَحِيصًا﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ سَنُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا وعْدَ اللهِ حَقًّا ومَن أصْدَقُ مِن اللهِ قِيلا﴾ قَوْلُهُ: ﴿ "وَلأُضِلَّنَّهُمْ"؛﴾ مَعْناهُ: أصْرِفُهم عن طَرِيقِ الهُدى؛ و"لَأُمَنِّيَنَّهُمْ"؛ لَأُسَوِّلَنَّ لَهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا لا يَنْحَصِرُ إلى نَوْعٍ واحِدٍ مِنَ الأُمْنِيَّةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ في نَفْسِهِ إنَّما تَمَنِّيهِ بِقَدْرِ نِسْبَتِهِ؛ وقَرائِنِ حالِهِ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -: « "إنَّ الشَيْطانَ يَقُولُ لِمَن يَرْكَبُ ولا يَذْكُرُ اللهَ: تَغَنَّ؛ فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ قالَ لَهُ: تَمَنَّ"؛» واللاماتُ كُلُّها لِلْقَسَمِ. (p-٢٦)والبَتْكُ: اَلْقَطْعُ؛ وكَثَّرَ الفِعْلَ إذِ القَطْعُ كَثِيرٌ؛ عَلى أنْحاءَ مُخْتَلِفَةٍ؛ وإنَّما كَنّى - عَزَّ وجَلَّ - عَنِ البَحِيرَةِ؛ والسائِبَةِ؛ ونَحْوِهِ؛ مِمّا كانُوا يُثْبِتُونَ فِيهِ حُكْمًا بِسَبَبِ آلِهَتِهِمْ؛ وبِغَيْرِ ذَلِكَ؛ وقَرَأ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: "وَلامُرَنَّهُمْ"؛ بِغَيْرِ ألِفٍ؛ وقَرَأ أُبَيٌّ: "وَأُضِلُّهم وأُمَنِّيهِمْ وآمُرُهُمْ". واخْتُلِفَ في مَعْنى تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ ؛ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وإبْراهِيمُ؛ ومُجاهِدٌ ؛ والحَسَنُ ؛ وقَتادَةُ ؛ وغَيْرُهُمْ: "أرادَ: يُغَيِّرُونَ دِينَ اللهِ"؛ وذَهَبُوا في ذَلِكَ إلى الِاحْتِجاجِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ [الروم: ٣٠] ؛ أيْ: لِدِينِ اللهِ؛ والتَبْدِيلُ يَقَعُ مَوْضِعَهُ التَغْيِيرُ؛ وإنْ كانَ التَغْيِيرُ أعَمَّ مِنهُ؛ وقالَتْ فِرْقَةٌ: "تَغْيِيرُ خَلْقِ اللهِ هو أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ الشَمْسَ؛ والنَهارَ؛ والحِجارَةَ؛ وغَيْرَها مِنَ المَخْلُوقاتِ؛ لِيُعْتَبَرَ بِها؛ ويُنْتَفَعَ بِها؛ فَغَيَّرَها الكُفّارُ بِأنْ جَعَلُوها آلِهَةً مَعْبُودَةً"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا؛ وأنَسٌ ؛ وعِكْرِمَةُ ؛ وأبُو صالِحٍ: "مِن تَغْيِيرِ خَلْقِ اللهِ الإخْصاءُ؛ والآيَةُ إشارَةٌ إلى إخْصاءِ البَهائِمِ؛ وما شاكَلَهُ؛ فَهي عِنْدَهم أشْياءُ مَمْنُوعَةٌ"؛ ورَخَّصَ في إخْصاءِ البَهائِمِ جَماعَةٌ؛ إذا قُصِدَتْ بِهِ المَنفَعَةُ؛ إمّا السِمَنُ؛ أو غَيْرُهُ؛ وخَصَّها عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ في الخَيْلِ؛ وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ؛ والحَسَنُ: هي إشارَةٌ إلى الوَشْمِ؛ وما جَرى مُجْراهُ مِنَ التَصَنُّعِ لِلْحُسْنِ؛ فَمِن ذَلِكَ الحَدِيثُ: « "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - ﷺ - الواشِماتِ والمَوْشُوماتِ؛ والمُتَنَمِّصاتِ؛ والمُتَفَلِّجاتِ؛ المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ"؛» ومِنهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -: « "لَعَنَ اللهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ".» ومِلاكُ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ (p-٢٧)أنَّ كُلَّ تَغْيِيرٍ ضارٍّ فَهو في الآيَةِ؛ وكُلَّ تَغْيِيرٍ نافِعٍ فَهو مُباحٌ. ولَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى عُتُوَّ الشَيْطانِ؛ وما تَوَعَّدَ بِهِ مِن بَثِّ مَكْرِهِ؛ حَذَّرَهُ - تَبارَكَ وتَعالى - عِبادَهُ؛ بِأنْ شَرَطَ لِمَن يَتَّخِذُهُ ولِيًّا جَزاءَ الخُسْرانِ؛ وتَصَوُّرُ الخُسْرانِ إنَّما هو بِأنْ أخَذَ هَذا المُتَّخِذُ حَظَّ الشَيْطانِ؛ فَكَأنَّهُ أُعْطِيَ حَظَّ اللهِ - تَبارَكَ وتَعالى - فِيهِ؛ وتَرَكَهُ مِن أجْلِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعِدُهم ويُمَنِّيهِمْ﴾ ؛ يَعِدُهم بِأباطِيلِهِ؛ مِنَ المالِ؛ والجاهِ؛ وأنْ لا بَعْثَ؛ ولا عِقابَ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِكُلِّ أحَدٍ ما يَلِيقُ بِحالِهِ؛ ويُمَنِّيهِمْ كَذَلِكَ؛ ثُمَّ ابْتَدَأ تَعالى الخَبَرَ عن حَقِيقَةِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما يَعِدُهُمُ الشَيْطانُ إلا غُرُورًا﴾. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِمَصِيرِ المُتَّخِذِينَ الشَيْطانَ ولِيًّا؛ وتَوَعَّدَهم بِأنَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ؛ ولا يُدافِعُونَها بِحِيلَةٍ؛ ولا يَعْدِلُونَ عنها؛ ولا يَنْحَرِفُونَ؛ ولا يَتَرَوَّغُونَ؛ و"اَلْمَحِيصُ": "مَفْعُولٌ" مِن "حاصَ"؛ إذا راغَ؛ ونَفَرَ؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ولَمْ أدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ∗∗∗ كَمِ العُمْرُ باقٍ والمَدى مُتَطاوِلُ ومِنهُ الحَدِيثُ: « "فَحاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلى الأبْوابِ"؛» و"جاضَ" (بِالجِيمِ والضادِ المَنقُوطَةِ)؛ إذا راغَ بِنُفُورٍ؛ ولُغَةُ القُرْآنِ الحاءُ والصادُ؛ غَيْرَ مَنقُوطَةٍ. ولَمّا أخْبَرَ تَعالى عَنِ الكُفّارِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الشَيْطانَ ولِيًّا؛ وأعْلَمَ بِغُرُورِ وعْدِ الشَيْطانِ لَهُمْ؛ وأعْلَمَ بِصُيُورِ أمْرِهِمْ؛ وأنَّهُ إلى جَهَنَّمَ؛ فاقْتَضى ذَلِكَ كُلُّهُ التَحْذِيرَ؛ أعْقَبَ ذَلِكَ - عَزَّ وجَلَّ - بِالتَرْغِيبِ في ذِكْرِهِ حالَةَ المُؤْمِنِينَ؛ وأعْلَمَ بِصُيُورِ أمْرِهِمْ؛ (p-٢٨)وَأنَّهُ إلى النَعِيمِ المُقِيمِ؛ وأعْلَمُ بِصِحَّةِ وعْدِهِ تَعالى لَهُمْ؛ ثُمَّ قَرَّرَ ذَلِكَ بِالتَوْقِيفِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿وَمَن أصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا﴾ ؛ و"اَلْقِيلُ"؛ و"اَلْقَوْلُ"؛ واحِدٌ؛ ونَصْبُهُ عَلى التَمْيِيزِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "سَنُدْخِلُهُمْ"؛ بِالنُونِ؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "سَيُدْخِلُهُمْ"؛ بِالياءِ؛ و"وَعْدَ اللهِ"؛ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ؛ و"حَقًّا" مَصْدَرٌ أيْضًا؛ مُؤَكِّدٌ لِما قَبْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب