الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلا إناثًا وإنْ يَدْعُونَ إلا شَيْطانًا مَرِيدًا﴾ ﴿لَعَنَهُ اللهُ وقالَ لأتَّخِذَنَّ مِن عِبادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ اَلضَّمِيرُ في ﴿ "يَدْعُونَ"﴾ عائِدٌ عَلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الكَفَرَةِ؛ في قَوْلِهِ: ﴿وَمَن يُشاقِقِ الرَسُولَ﴾ [النساء: ١١٥] ؛ و﴿ "إنْ"﴾ نافِيَةٌ بِمَعْنى (ما)؛ و﴿ "يَدْعُونَ"؛﴾ عِبارَةٌ مُغْنِيَةٌ مُوجَزَةٌ في مَعْنى "يَعْبُدُونَ"؛ و"يَتَّخِذُونَ آلِهَةً"؛ وقَرَأ أبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ: "إنْ تَدْعُونَ"؛ بِالتاءِ؛ فَقالَ أبُو مالِكٍ ؛ والسُدِّيُّ ؛ وغَيْرُهُما: "ذَلِكَ لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ تُسَمِّي أصْنامَها بِأسْماءٍ مُؤَنَّثَةٍ؛ كاللاتِ؛ والعُزّى؛ ومَناةَ؛ ونائِلَةَ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ -رَحِمَهُ اللهُ -: "وَيَرُدُّ عَلى هَذا أنَّها كانَتْ تُسَمّى بِأسْماءٍ مُذَكَّرَةٍ كَثِيرَةٍ"؛ وقالَ الضَحّاكُ وغَيْرُهُ: "اَلْمُرادُ ما كانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِن تَأْنِيثِ المَلائِكَةِ؛ وعِبادَتِهِمْ إيّاها؛ فَقِيلَ لَهم هَذا عَلى (p-٢٤)جِهَةِ إقامَةِ الحُجَّةِ مِن فاسِدِ قَوْلِهِمْ"؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ؛ والحَسَنُ ؛ وقَتادَةُ: "اَلْمُرادُ الخَشَبُ والحِجارَةُ؛ وهي مُؤَنَّثاتٌ لا تَعْقِلُ؛ فَيُخْبِرُ عنها كَما يُخْبِرُ عَنِ المُؤَنَّثِ مِنَ الأشْياءِ؛ فَيَجِيءُ قَوْلُهُ: "إلّا إناثًا"؛ عِبارَةً عَنِ الجَماداتِ"؛ وقِيلَ: "إنَّما هَذا لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ تُسَمِّي الصَنَمَ أُنْثى؛ فَتَقُولُ: أُنْثى بَنِي فُلانٍ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَهَذا عَلى اخْتِلافِهِ يَقْضِي بِتَعْيِيرِهِمْ بِالتَأْنِيثِ؛ وأنَّ التَأْنِيثَ نَقْصٌ؛ وخَساسَةٌ؛ بِالإضافَةِ إلى التَذْكِيرِ"؛ وقِيلَ: "مَعْنى "إناثًا": أوثانًا"؛ وفي مُصْحَفِ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عنها -: "إنْ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلّا أوثانًا"؛ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَوى عنهُ أبُو صالِحٍ: "إلّا أنَثًا"؛ يُرِيدُ: "وَثَنًا"؛ فَأبْدَلَ الهَمْزَةَ واوًا؛ وهو جَمْعُ جَمْعٍ؛ عَلى ما حَكى بَعْضُ الناسِ؛ كَأنَّهُ جَمَعَ "وَثَنًا" عَلى "وِثانٌ"؛ كَـ "جَمَلٌ"؛ و"جِمالٌ"؛ ثُمَّ جَمَعَ "وِثانًا" عَلى "وُثُنٌ"؛ كَـ "رِهانٌ"؛ و"رُهُنٌ"؛ وكَـ "مِثالٌ"؛ و"مُثُلٌ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: "وَهَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّ "فِعالًا" في جَمْعِ "فَعَلٌ" إنَّما هو لِلتَّكْثِيرِ؛ والجَمْعُ الَّذِي هو لِلتَّكْثِيرِ لا يُجْمَعُ؛ وإنَّما تُجْمَعُ جُمُوعُ التَقْلِيلِ؛ والصَوابُ أنْ تَقُولَ: "وُثُنٌ" جَمْعُ "وَثَنٌ"؛ دُونَ واسِطَةٍ؛ كَـ "أُسُدٌ"؛ و"أسَدٌ"؛ قالَ أبُو عَمْرٍو: "وَبِهَذا قَرَأ ابْنُ عُمَرَ ؛ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ ؛ ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ ؛ وعَطاءٌ "؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: "إلّا وثَنًا"؛ بِفَتْحِ الواوِ والثاءِ؛ عَلى إفْرادِ اسْمِ الجِنْسِ؛ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: "وُثُنًا"؛ بِضَمِّ الواوِ والثاءِ؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إلّا وثْنًا"؛ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إلّا أثْنًا"؛ بِسُكُونِ الثاءِ؛ «وَقَرَأ النَبِيُّ - ﷺ -: "إلّا أُنُثًا"؛ بِتَقْدِيمِ النُونِ؛» وهو جَمْعُ "أنِيثٌ"؛ كَـ "غَدِيرٌ"؛ و"غُدُرٌ"؛ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّهُ جَمْعُ "إناثٌ"؛ كَـ "ثِمارٌ"؛ و"ثُمُرٌ"؛ وحَكى هَذِهِ القِراءَةَ عَنِ النَبِيِّ - ﷺ - أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ ؛ قالَ: "وَقَرَأ بِها ابْنُ عَبّاسٍ ؛ وأبُو حَيْوَةَ؛ والحَسَنُ ". واخْتُلِفَ في المَعْنِيِّ بِالشَيْطانِ؛ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: "هُوَ الشَيْطانُ المُقْتَرِنُ بِكُلِّ صَنَمٍ؛ فَكَأنَّهُ مُوَحَّدٌ بِاللَفْظِ؛ جَمْعٌ بِالمَعْنى؛ لِأنَّ الواحِدَ يَدُلُّ عَلى الجِنْسِ"؛ وقالَ الجُمْهُورُ: "اَلْمُرادُ: إبْلِيسُ"؛ وهَذا هو الصَوابُ؛ لِأنَّ سائِرَ المَقالَةِ بِهِ تَلِيقُ؛ و"مَرِيدًا"؛ مَعْناهُ: عاتِيًا؛ صَلِيبًا في غَوايَتِهِ؛ وهو "فَعِيلٌ"؛ مِن "مَرَدَ"؛ إذا عَتا؛ وغَلا في انْحِرافِهِ؛ وتَجَرَّدَ لِلشَّرِّ؛ والغَوايَةِ. (p-٢٥)وَأصْلُ اللَعْنِ: اَلْإبْعادُ؛ وهو في العُرْفِ: إبْعادٌ مُقْتَرِنٌ بِسُخْطٍ؛ وغَضَبٍ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "لَعَنَهُ"؛ صِفَةَ الشَيْطانِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عنهُ؛ والمَعْنى يَتَقارَبُ عَلى الوَجْهَيْنِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ لأتَّخِذَنَّ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ اَلتَّقْدِيرُ: "وَقالَ الشَيْطانُ"؛ والمَعْنى: "لَأسْتَخْلِصَنَّهم لِغَوايَتِي؛ ولَأخُصَّنَّهم بِإضْلالِي"؛ وهُمُ الكَفَرَةُ؛ والعُصاةُ. و"اَلْمَفْرُوضُ" مَعْناهُ في هَذا المَوْضِعِ: اَلْمُنْحازُ؛ وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الفَرْضِ؛ وهو الحَزُّ في العُودِ؛ وغَيْرِهِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: "واجِبًا أنْ أتَّخِذَهُ"؛ وبَعْثُ النارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب