الباحث القرآني

(p-١٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناسِ ولا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وهو مَعَهم إذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ القَوْلِ وكانَ اللهِ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عنهم في الحَياةِ الدُنْيا فَمَن يُجادِلُ اللهَ عنهم يَوْمَ القِيامَةِ أمْ مَن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلا﴾ ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ اَلضَّمِيرُ في ﴿ "يَسْتَخْفُونَ"﴾ لِلصِّنْفِ المُرْتَكِبِ لِلْمَعاصِي مُسْتَتِرِينَ بِذَلِكَ عَنِ الناسِ؛ مُباهِتِينَ لَهُمْ؛ وانْدَرَجَ في طَيِّ هَذا العُمُومِ؛ ودَخَلَ تَحْتَ هَذِهِ الأنْحاءِ؛ أهْلُ الخِيانَةِ في النازِلَةِ المَذْكُورَةِ؛ وأهْلُ التَعَصُّبِ لَهُمْ؛ والتَدْبِيرِ في خَدْعِ النَبِيِّ - ﷺ -؛ والتَلْبِيسِ عَلَيْهِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَمِيرُ لِأهْلِ هَذِهِ النازِلَةِ؛ ويَدْخُلُ في مَعْنى هَذا التَوْبِيخِ كُلُّ مَن فَعَلَ نَحْوَ فِعْلِهِمْ. ومَعْنى ﴿ "وَهُوَ مَعَهُمْ":﴾ بِالإحاطَةِ؛ والعِلْمِ؛ والقُدْرَةِ؛ "وَيُبَيِّتُونَ": يُدَبِّرُونَ لَيْلًا؛ اِنْطَلَقَتِ العِبارَةُ عَلى كُلِّ اسْتِسْرارٍ بِهَذا؛ إذِ اللَيْلُ مَظِنَّةُ الِاسْتِتارِ والِاخْتِفاءِ؛ قالَ الطَبَرِيُّ: "وَزَعَمَ بَعْضُ الطائِيِّينَ أنَّ التَبْيِيتَ في لُغَتِهِمُ التَبْدِيلُ؛ وأنْشَدَ لِلْأسْوَدِ بْنِ عامِرِ بْنِ حُوَيْنٍ الطائِيِّ: ؎ وبَيَّتَّ قَوْلِيَ عِنْدَ المَلِيـ ∗∗∗ كِ قاتَلَكَ اللهُ عَبْدًا كَنُودا وقالَ أبُو زَيْدٍ: ﴿ "يُبَيِّتُونَ"؛﴾ مَعْناهُ: يُؤَلِّفُونَ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اللَفْظَةُ مَأْخُوذَةٌ مِن "اَلْبَيْتُ"؛ أيْ: يَسْتَسِرُّونَ في تَدْبِيرِهِمْ بِالجُدْرانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ ؛ قَدْ تَقَدَّمَتْ وُجُوهُ القِراءاتِ فِيهِ في سُورَةِ "آلِ عِمْرانَ "؛ والخِطابُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِأهْلِ الرَيْبِ والمَعاصِي؛ ويَنْدَرِجُ طَيَّ هَذا العُمُومِ أهْلُ النازِلَةِ؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِأهْلِ التَعَصُّبِ في هَذِهِ النازِلَةِ؛ وهو الأظْهَرُ عِنْدِي؛ بِحُكْمِ التَأْكِيدِ بِـ ﴿ "هَؤُلاءِ"؛﴾ وهي إشارَةٌ إلى حاضِرِينَ - وقَدْ تَقَدَّمَ إعْرابُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ "آلِ عِمْرانَ ". والمُجادَلَةُ: اَلْمُدافَعَةُ بِالقَوْلِ؛ وهي مِن فَتْلِ الكَلامِ ولَيِّهِ؛ إذِ الجَدَلُ: اَلْفَتْلُ. (p-٢٠)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن يُجادِلُ اللهَ عنهم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ ؛ وعِيدٌ مَحْضٌ؛ أيْ: إنَّ اللهَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الأمْرِ؛ فَلا يُمْكِنُ أنْ يُلْبَسَ عَلَيْهِ بِجِدالٍ؛ ولا بِغَيْرِهِ؛ كَما فَعَلْتُمْ بِالنَبِيِّ - ﷺ -؛ إذْ هو بَشَرٌ يَقْضِي عَلى نَحْوِ ما يَسْمَعُ. ولَمّا تَمَكَّنَ هَذا الوَعِيدُ؛ وقَضَتِ العُقُولُ بِألّا مُجادِلَ لِلَّهِ؛ ولا وكِيلَ يَقُومُ بِأُمُورِ العُصاةِ عِنْدَهُ - عَقَّبَ ذَلِكَ هَذا الرَجاءَ العَظِيمَ؛ والمَهْلَ المُنْفَسِحَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ قَوْلُهُ: ﴿أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ ؛ مَنحًى مِن عَمَلِ السُوءِ؛ وهُما بِمَعْنى واحِدٍ؛ تَكَرَّرَ بِاخْتِلافِ لَفْظٍ مُبالَغَةً؛ واسْتِغْفارُ اللهِ تَعالى ؛ مَعَ التَحْقِيقِ في ذَلِكَ تَوْبَةٌ. وقَوْلُهُ: ﴿يَجِدِ اللهَ﴾ ؛ اِسْتِعارَةٌ؛ لَمّا كانَتِ الرَحْمَةُ والغُفْرانُ مُعَدَّةً لِلْمُسْتَغْفِرِينَ التائِبِينَ؛ كانُوا كالواجِدِينَ لِمَطْلُوبٍ؛ وكَأنَّ التَوْبَةَ وُرُودٌ عَلى رَحْمَةِ اللهِ؛ وقُرْبٌ مِنَ اللهِ؛ وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَوْمًا في مَجْلِسِهِ: "كانَ بَنُو إسْرائِيلَ إذا أصابَ أحَدُهم ذَنْبًا أصْبَحَ وقَدْ كُتِبَتْ كَفّارَةُ ذَلِكَ الذَنْبِ عَلى بابِهِ؛ وإذا أصابَ البَوْلُ شَيْئًا مِن ثِيابِهِ قَرَضَهُ بِالمِقْراضِ؛ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: لَقَدْ آتى اللهُ بَنِي إسْرائِيلَ خَيْرًا؛ فَقالَ عَبْدُ اللهِ: ما آتاكُمُ اللهُ خَيْرٌ مِمّا آتاهُمْ؛ جَعَلَ لَكُمُ الماءَ طَهُورًا؛ وقالَ ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ ؛ اَلْآيَةَ"؛ وهَذِهِ آيَةُ وعْدٍ بِشَرْطِ المَشِيئَةِ؛ عَلى ما تَقْتَضِيهِ عَقِيدَةُ أهْلِ السُنَّةِ؛ وفَضْلُ اللهِ مَرْجُوٌّ؛ وهو المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب