الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنكم ولا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكم ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إلى رَبِّكم مَرْجِعُكم فَيُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُورِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هَذِهِ الآيَةُ مُخاطِبَةٌ لِلْكُفّارِ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يُطَهِّرَ (p-٣٧٥)قُلُوبَهُمْ، و"عِبادُهُ" هُمُ المُؤْمِنُونَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُخاطِبَةً لِجَمِيعِ الناسِ، لِأنَّ اللهَ تَعالى غَنِيٌّ عن جَمِيعِ الناسِ وهم فُقَراءُ إلَيْهِ، وبَيَّنَ بُعْدَ البَشَرِ عن رِضى اللهِ إنْ كَفَرُوا، بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ تَكْفُرُوا﴾. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ مِن أهْلِ السُنَّةِ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الكُفْرَ﴾، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الرِضى بِمَعْنى الإرادَةِ، والكَلامُ ظاهِرُهُ العُمُومُ ومَعْناهُ الخُصُوصُ فِيمَن قَضى اللهُ لَهُ، فَعِبادُهُ - عَلى هَذا - مَلائِكَتُهُ ومُؤْمِنُو البَشَرِ والجِنِّ، وهَذا يَتَرَكَّبُ عَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الكَلامُ عُمُومٌ صَحِيحٌ، والكُفْرُ يَقَعُ مِمَّنْ يَقَعُ بِإرادَةِ اللهِ تَعالى؛ إلّا أنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لا يَرْضاهُ دِينًا لَهُمْ، وهَذا يَتَرَكَّبُ عَلى الِاحْتِمالِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا، ومَعْنى: "لا يَرْضى": لا يَشْكُرُهُ لَهم ولا يُثِيبُهم بِهِ خَيْرًا، فالرِضى - عَلى هَذا - هو صِفَةُ فِعْلٍ لِمَعْنى القَبُولِ ونَحْوِهُ، وتَأمَّلِ الإرادَةَ فَإنَّ حَقِيقَتَها، إنَّما هي فِيما لَمْ يَقَعْ بَعْدُ، والرِضى فَإنَّما حَقِيقَتُهُ فِيما قَدْ وقَعَ، واعْتَبِرْ هَذا في آياتِ القُرْآنِ تَجِدْهُ، وإنْ كانَتِ العَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ في أشْعارِها عَلى جِهَةِ التَجَوُّزِ هَذا بَدَلَ هَذا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ عُمُومٌ، والشُكْرُ الحَقِيقِيُّ في ضِمْنِهِ الإيمانُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ: "يَرْضَهُ" بِضَمَّةٍ مُشْبَعَةٍ عَلى الهاءِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ بِضَمَّةٍ مُخْتَلَسَةٍ، واخْتُلِفَ عن نافِعٍ وأبِي عَمْرٍو - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ -: [يَرْضَهْ] بِسُكُونِ الهاءِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: وهو غَلَطٌ لا يَجُوزُ. قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾، أيْ: لا يَحْمِلُ أحَدٌ ذَنْبَ أحَدٍ، وأنَّثَ "الوازِرَةَ" و"الأُخْرى" لِأنَّهُ أرادَ الأنْفُسَ، و"الوِزْرُ" الثِقَلُ، وهَذا خَبَرٌ مُضَمَّنُهُ الحَضُّ عَلى أنْ يَنْظُرَ كُلُّ أحَدٍ في خاصَّةِ أمْرِهِ، وما يَنُوبُهُ في ذاتِهِ، ثُمَّ أخْبَرَهم تَعالى بِأنَّ مَرْجِعَهم في الآخِرَةِ إلى رَبِّهِمْ، أيْ: إلى ثَوابِهِ أو عِقابِهِ، فَيُوقِفُ كُلَّ أحَدٍ عَلى أعْمالِهِ؛ لِأنَّهُ المُطَّلِعُ عَلى نِيّاتِ الصُدُورِ وسائِرِ الأفْئِدَةِ، و"ذاتُ الصَدْرِ": ما فِيهِ مِن خَبِيئَةٍ، ومِنهُ قَوْلُهُمُ: "الذِئْبُ مَغْبُوطٌ بِذِي بَطْنِهِ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب