الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ لِلنّاسِ بِالحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَإنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿اللهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها (p-٣٩٨)فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الأُخْرى إلى أجَلٍ مُسَمًّى إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ هَذا إعْلامٌ بِعُلُوِّ مَكانَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ واصْطِفاءِ رَبِّهِ لَهُ. و"الكِتابَ": القُرْآنُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "بِالحَقِّ"﴾ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُرِيدَ: مُضَمَّنًا الحَقَّ في أخْبارِهِ وأحْكامِهِ، والآخَرُ أنْ يُرِيدَ أنَّهُ أنْزَلَهُ بِالواجِبِ مِن إنْزالِهِ، وبِالِاسْتِحْقاقِ لِذَلِكَ، لِما فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ العالَمِ وهِدايَةِ الناسِ، وكَأنَّ هَذا الَّذِي فَعَلَ اللهُ تَعالى مِن إنْزالِ كِتابٍ إلى عَبْدِهِ هو إقامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، وبَقِيَ تَكَسُّبُهم بَعْدُ إلَيْهِمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ عَمِلَ وسَعى، ومَن ضَلَّ فَعَلَيْها جَنى. والهُدى والضَلالُ إنَّما لِلَّهِ تَعالى فِيهِما خَلْقٌ واخْتِراعٌ، ولِلْعَبْدِ تَكَسُّبٌ، عَلَيْهِ يَقَعُ الثَوابُ أوِ العِقابُ. وأخْبَرَ نَبِيَّهُ أنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَلَيْهِمْ ولا مُسَيْطِرٍ، و"الوَكِيلُ": القائِمُ عَلى الأمْرِ حَتّى يُكْمِلَهُ. ثُمَّ نَبَّهَ تَعالى عَلى آيَةٍ مِن آياتِهِ الكُبْرى تَدُلُّ الناظِرَ عَلى الوِحْدانِيَّةِ، وأنَّ ذَلِكَ لا شِرْكَ فِيهِ لِصَنَمٍ، وهي حالَةُ التَوَفِّي، وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى ما تَوَفّاهُ عَلى الكَمالِ فَهو الَّذِي يَمُوتُ، وما تَوَفّاهُ تَوَفِّيًا غَيْرَ مُكْمَلٍ فَهو الَّذِي يَكُونُ في النَوْمِ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: النَوْمُ وفاةٌ، والمَوْتُ وفاةٌ، وكَثَّرَتْ فِرْقَةٌ في هَذِهِ الآيَةِ وهَذا المَعْنى، فَفَرَّقَتْ بَيْنَ النَفْسِ والرُوحِ، وفَرَّقَ قَوْمٌ أيْضًا بَيْنَ نَفْسِ التَمْيِيزِ ونَفْسِ التَخَيُّلِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأقْوالِ الَّتِي هي غَلَبَةُ ظَنٍّ، وحَقِيقَةُ الأمْرِ في هَذا هي مِمّا اسْتَأْثَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى بِهِ وغَيَّبَهُ عن عِبادِهِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قُلِ الرُوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥]، ويَكْفِيكَ أنَّ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿ "يَتَوَفّى الأنْفُسَ"،﴾ وفي الحَدِيثِ الصَحِيحِ «إنَّ اللهَ قَبَضَ أرْواحَنا حِينَ شاءَ، ورَدَّها عَلَيْنا حِينَ شاءَ،» في حَدِيثِ بِلالٍ في الوادِي، فَقَدْ نَطَقَتِ الشَرِيعَةُ بِقَبْضِ الرُوحِ والنَفْسِ في النَوْمِ، وقَدْ قالَ اللهُ (p-٣٩٩)تَعالى: ﴿قُلِ الرُوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء: ٨٥]، فَظاهِرٌ أنَّ التَفْصِيلَ والخَوْضَ في هَذا كُلِّهُ عَناءٌ، وإنْ كانَ قَدْ تَعَرَّضَ لِلْقَوْلِ في هَذا ونَحْوِهِ الأئِمَّةُ، ذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ وغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قالَ: في ابْنِ آدَمَ نَفْسٌ بِها العَقْلُ والتَمْيِيزُ، وفِيهِ رُوحٌ بِها التَنَفُّسُ والتَحَرُّكُ، فَإذا نامَ العَبْدُ قَبَضَ اللهُ نَفْسَهُ ولَمْ يَقْبِضْ رُوحَهُ. و"الأجَلُ المُسَمّى" في هَذِهِ الآيَةِ: هو عُمْرُ كُلِّ إنْسانٍ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: ﴿قَضى عَلَيْها﴾ بِفَتْحِ القافِ والضادِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: [قُضِيَ عَلَيْها] بِضَمِّ القافِ وكَسْرِ الضادِ، وهي قِراءَةُ ابْنِ وثّابٍ، وطَلْحَةَ، والأعْمَشِ، وعِيسى. ثُمَّ أحالَ أهْلَ الفِكْرَةَ عَلى النَظَرِ في هَذا ونَحْوِهِ، فَإنَّهُ مِنَ البَيِّنِ أنَّ هَذِهِ القُدْرَةَ لا يَمْلِكُها إلّا الواحِدُ الصَمَدُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب