الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ ﴿لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿ألَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ويُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ومَن يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ ﴿وَمَن يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِن مُضِلٍّ ألَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ﴾ مُعادِلٌ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللهِ وكَذَّبَ بِالصِدْقِ﴾ [الزمر: ٣٢] فَـ"مَن" هُنالِكَ لِلْجَمِيعِ والعُمُومِ، و[الَّذِي] هُنا لِلْجِنْسِ أيْضًا، كَأنَّهُ قالَ: والفَرِيقُ الَّذِي جاءَ بَعْضُهُ بِالصِدْقِ، وصَدَّقَ بِهِ بَعْضُهُ، ويَسْتَقِيمُ اللَفْظُ والمَعْنى عَلى هَذا التَرْتِيبِ. وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: [والَّذِينَ جاءُوا بِالصِدْقِ وصَدَّقُوا بِهِ]، وهو هُنا القُرْآنُ وأنْباؤُهُ، والشَرْعُ بِجُمْلَتِهِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "الَّذِي" يُرادُ بِهِ: الَّذِينَ، وحُذِفَتِ النُونُ لِطُولِ الكَلامِ، وهَذا غَيْرُ جَيِّدٍ، وتَرْكِيبُ "جاءَ" عَلَيْهِ يَرُدُّ ذَلِكَ، ولَيْسَ كَقَوْلِ الفَرَزْدَقِ: ؎ إنَّ عَمَّيَّ اللَذّا ∗∗∗ قَتَلا المُلُوكَ.... (p-٣٩٥)وَنَظِيرُ الآيَةِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وإنَّ الَّذِي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهم ∗∗∗ ∗∗∗ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أمَّ خالِدِ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: والَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ هو مُحَمَّدٌ ﷺ، وهو الَّذِي صَدَّقَ بِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ هو جِبْرِيلُ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ، هو مُحَمَّدٌ ﷺ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وأبُو العالِيَةِ، والكَلْبِيُّ، وجَماعَةٌ: الَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ هو مُحَمَّدٌ ﷺ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ هو أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقالَ قَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: الَّذِي جاءَ بِالصِدْقِ هو مُحَمَّدٌ ﷺ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ، قالَ مُجاهِدٌ: هم أهْلُ القُرْآنِ، وقالَ أبُو الأسْوَدِ ومُجاهِدٌ وجَماعَةٌ: الَّذِي صَدَّقَ هو عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ بِالعُمُومِ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوَّلًا، وهو أصْوَبُ الأقْوالِ. وقَرَأ أبُو صالِحٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ جُحادَةَ، وعِكْرِمَةُ بْنُ سُلَيْمانَ: [وَصَدَقَ بِهِ] بِالتَخْفِيفِ في الدالِ، بِمَعْنى: اسْتَحَقَّ بِهِ اسْمَ الصِدْقَ، فَعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ إسْنادُ الأفْعالِ كُلِّها إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وكَأنَّ أُمَّتَهُ في ضِمْنِ القَوْلِ، وهو الَّذِي يُحَسِّنُ: ﴿أُولَئِكَ (p-٣٩٦)هُمُ المُتَّقُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: اتَّقَوُا الشِرْكَ. واللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهُمْ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿المُحْسِنِينَ﴾، أيِ: الَّذِينَ أحْسَنُوا لِكَيْ يُكَفِّرَ، وقالَهُ ابْنُ زَيْدٍ، ويَحْتَمِلُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَقْطُوعٍ مِمّا قَبْلَهُ، كَأنَّكَ قُلْتَ: "بَشَّرَهُمُ اللهُ تَعالى بِذَلِكَ لِيَكَفِّرَ" لِأنَّ التَكْفِيرَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ التَيْسِيرِ لِلْخَيْرِ، و﴿أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا﴾ هو كُفْرُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ ومَعاصِي أهْلِ الإسْلامِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ﴾ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ، لِأنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ كانَتْ خَوَّفَتْهُ مِنَ الأصْنامِ، وقالُوا: أنْتَ تَسُبُّها ونَخافُ أنْ تُصِيبَكَ بِجُنُونٍ أو عِلَّةٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: [عِبادَهُ] يُرِيدُ الأنْبِياءَ المُخْتَصِّينَ بِهِ، وأنْتَ أحَدُهُمْ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ المُطِيعُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُتَوَكِّلُونَ عَلى اللهِ تَعالى، وهَذِهِ قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ وثّابٍ، وطَلْحَةَ، والأعْمَشِ. وقَرَأ الباقُونَ: "عَبْدَهُ" وهو اسْمُ جِنْسٍ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وشَيْبَةَ، وأهْلِ المَدِينَةِ، ويُقَوِّي أنَّ الإشارَةَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ﴾ ؛ وقَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِهِ﴾ يُرِيدُ: بِالَّذِينِ يُعْبَدُونَ مِن دُونِهِ، ورُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ بَعَثَ خالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إلى كَسْرِ العُزّى، فَقالَ سادِنُها: يا خالِدُ، إنِّي أخافُ عَلَيْكَ مِنها، فَلَها قُوَّةٌ لا يَقُومُ لَها شَيْءٌ، فَأخَذَ خالِدُ الفَأْسَ فَهَشَّمَ بِهِ وجْهَها وانْصَرَفَ.» ثُمَّ قَرَّرَ تَعالى أنَّ الهِدايَةَ والإضْلالَ مِن عِنْدِهِ بِالخَلْقِ والِاخْتِراعِ، وأنَّ ما أرادَ مِن ذَلِكَ لا رادَّ لَهُ، ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِعِزَّتِهِ وانْتِقامِهِ، فَكانَ ذَلِكَ، وانْتَقَمَ مِنهم يَوْمَ بَدْرٍ وما بَعْدَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب