الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿قالَ يا إبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ ﴿قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ ﴿قالَ فاخْرُجْ مِنها فَإنَّكَ رَجِيمٌ﴾ ﴿وَإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِينِ﴾ ﴿قالَ رَبِّ فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿قالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾
القائِلُ لِإبْلِيسَ هو اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وقَوْلُهُ: ﴿ما مَنَعَكَ﴾ تَقْرِيرٌ وتَوْبِيخٌ، وقَرَأ عاصِمٌ والجَحْدَرِيُّ: "لَمّا خَلَقْتُ" بِفَتْحِ اللامِ مِن (لَمّا) وشَدِّ المِيمِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "بِيَدَيَّ"﴾ بِالتَثْنِيَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بِيَدِيَ" بِفَتْحِ الياءِ، وقَدْ جاءَ في كِتابِ اللهِ تَعالى: ﴿مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا﴾ [يس: ٧١] بِالجَمْعِ، وهَذِهِ كُلُّها عِبارَةٌ عَنِ القُدْرَةِ والقُوَّةِ، وعَبَّرَ عن هَذا المَعْنى بِذِكْرِ اليَدِ تَقْرِيبًا عَلى السامِعِينَ؛ إذِ المُعْتادُ عِنْدَ البَشَرِ أنَّ القُوَّةَ والبَطْشَ والِاقْتِدارَ إنَّما هو بِاليَدِ، وقَدْ كانَتْ جَهالَةُ العَرَبِ بِاللهِ تَعالى تَقْتَضِي أنْ تُنْكِرَ نُفُوسُها أنْ يَكُونَ خَلْقٌ بِغَيْرِ مُماسَّةٍ ونَحْوَ هَذا مِنَ المَعانِي المَعْقُولَةِ. وذَهَبَ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ إلى أنَّ اليَدَ والعَيْنَ والوَجْهَ صِفاتُ ذاتٍ زائِدَةٌ عَلى القُدْرَةِ والعِلْمِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن مُتَقَرَّرِ صِفاتِهِ تَعالى، وذَلِكَ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عنهُ، ويُسَمِّيها الصِفاتِ الخَبَرِيَّةَ. ورُوِيَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ أرْبَعَةَ أشْياءَ بِيَدِهِ، وهِيَ: العَرْشُ، والقَلَمُ، وجَنَّةُ عَدْنٍ، وآدَمُ، وسائِرَ المَخْلُوقاتِ بِقَوْلِهِ: كُنْ، وهَذا - إنْ صَحَّ - فَإنَّما ذُكِرَ عَلى جِهَةِ التَشْرِيفِ لِلْأرْبَعَةِ والتَنْبِيهِ مِنها، وإلّا فَإذا حُقِّقَ النَظَرُ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهو بِالقُدْرَةِ الَّتِي بِها يَقَعُ الإيجادُ بَعْدَ العَدَمِ.
وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "اسْتَكْبَرْتَ" بِصِلَةِ الألِفِ، عَلى الخَبَرِ عن إبْلِيسَ، وتَكُونُ "أمْ" بِنِيَّةِ (p-٣٦٥)الِانْقِطاعِ لا مُعادِلَةً لَها، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "أسْتَكْبَرْتَ" بِقَطْعِ الألِفِ، عَلى الِاسْتِفْهامِ، فَـ"أمْ" - عَلى هَذا - مُعادِلَةٌ لِلْألِفِ، وذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَحْوِيِّينَ إلى أنَّ "أمْ" لا تَكُونُ مُعادِلَةً لِلْألِفِ مَعَ اخْتِلافِ الفِعْلَيْنِ، وإنَّما تَكُونُ مُعادِلَةً إذا أُدْخِلَتا عَلى فِعْلٍ واحِدٍ، كَقَوْلِكَ؛ أزَيْدٌ قامَ أمْ عَمْرٌو ؟ وقالُوا: وإذا اخْتَلَفَ الفِعْلانِ كَهَذِهِ الآيَةِ فَلَيْسَتْ أمْ مُعادِلَةً. ومَعْنى الآيَةِ: أحَدَثَ لَكَ الِاسْتِكْبارُ الآنَ أمْ كُنْتَ قَدِيمًا مِمَّنْ لا يَلِيقُ أنَّ تُكَلَّفَ مِثْلَ هَذا لِعُلُوِّ مَكانِكَ؟ وهَذا عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ.
وقَوْلُ إبْلِيسَ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ قِياسٌ أخْطَأ فِيهِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا تَوَهَّمَ أنَّ النارَ أفْضَلُ مِنَ الطِينِ قاسَ أنَّ ما يُخْلَقُ مِنَ الأفْضَلِ فَهو أفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُخْلَقُ مِنَ المَفْضُولِ، ولَمْ يَدْرِ أنَّ الفَضائِلَ تَخْصِيصاتٌ مِنَ اللهِ تَعالى يَسِمُ بِها مَن يَشاءُ، وفي قَوْلِهِ رَدٌّ عَلى حِكْمَةِ اللهِ تَعالى وتَجْوِيرٌ، وذَلِكَ بَيِّنٌ في قَوْلِهِ: ﴿أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ﴾ [الإسراء: ٦٢]، ثُمَّ قالَ: ﴿أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾، وعِنْدَ هَذِهِ المَقالَةِ اقْتَرَنَ كُفْرُ إبْلِيسَ بِهِ، إمّا عِنادًا - عَلى قَوْلِ مَن يُجِيزُهُ -، وإمّا بِأنْ سُلِبَ المَعْرِفَةَ، وظاهِرُ أمْرِهِ أنَّهُ كَفَرَ عِنادًا؛ لِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ كافِرٌ، ونَحْنُ نَجِدُهُ خِلالَ القِصَّةِ يَقُولُ: "يا رَبِّ، وبِعِزَّتِكَ، وإلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ"، فَهَذا كُلُّهُ يَقْتَضِي المَعْرِفَةَ، وإنْ كانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهِ مُزاحَمٌ، فَتَأمَّلْهُ.
ثُمَّ أمْرَ اللهَ تَعالى إبْلِيسَ بِالخُرُوجِ عَلى جِهَةِ الدُخُورِ لَهُ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: أمَرَهُ بِالخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مِنَ السَماءِ. وحَكى الثَعْلَبِيُّ عَنِ الحَسَنِ، وأبِي العالِيَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: "مِنها" يُرِيدُ تَعالى: مِنَ الخِلْقَةِ الَّتِي أنْتَ فِيها، ومِن صِفاتِ الكَرامَةِ الَّتِي كانَتْ لَهُ، قالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ورَجَعَتْ لَهُ أضْدادُها، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ فَإنَّما أمَرَهُ أمْرًا يَقْتَضِي بُعْدَهُ عَنِ السَماءِ، ولا خِلافَ أنَّهُ أُهْبِطُ إلى الأرْضِ.
(p-٣٦٦)وَ"الرَجِيمُ": المَرْجُومُ بِالقَوْلِ السَيِّءِ، و"اللَعْنَةُ": الإبْعادُ. و"يَوْمُ الدِينِ": يَوْمُ القِيامَةِ. و"الدِينِ": الجَزاءُ.
وإنَّما حَدَّ لَهُ اللَعْنَةَ بِيَوْمِ الدِينِ، ولَعْنَتُهُ إنَّما هي مُخَلَّدَةٌ، لِيَحْصُرَ لَهُ أمَدَ التَوْبَةِ؛ لِأنَّ امْتِناعَ تَوْبَتِهِ بَعْدَ يَوْمِ القِيامَةِ بَيِّنٌ؛ إذْ لَيْسَتِ الآخِرَةُ دارَ عَمَلٍ.
ثُمَّ إنَّ إبْلِيسَ سَألَ النَظِرَةَ وتَأْخِيرَ الأجَلِ إلى يَوْمِ بَعْثِ الأجْسادِ مِنَ القُبُورِ، فَأعْطاهُ اللهُ تَعالى الإبْقاءَ إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ، واخْتَلَفَ الناسُ في تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقالَ الجُمْهُورُ: أسْعَفَهُ اللهُ في طِلْبَتِهِ وأخَّرَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهو الآنَ حَيٌّ مُغْوٍ مُضِلٌّ - وهَذا هو الأصَحُّ مِنَ القَوْلَيْنِ -، وقالَتْ فِرْقَةٌ: لَمْ يُسْعَفْ بِطِلْبَتِهِ، وإنَّما أُسْعِفَ إلى الوَقْتِ الَّذِي سَبَقَ مِنَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى أنْ يَمُوتَ إبْلِيسُ فِيهِ. وقالَ بَعْضُ هَذِهِ الفِرْقَةِ: ماتَ إبْلِيسُ يَوْمَ بَدْرٍ.
{"ayahs_start":75,"ayahs":["قَالَ یَـٰۤإِبۡلِیسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِیَدَیَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِینَ","قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ","قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِیمࣱ","وَإِنَّ عَلَیۡكَ لَعۡنَتِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلدِّینِ","قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ","قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلۡمُنظَرِینَ","إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡوَقۡتِ ٱلۡمَعۡلُومِ"],"ayah":"وَإِنَّ عَلَیۡكَ لَعۡنَتِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلدِّینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق