الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿قُلْ هو نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿أنْتُمْ عنهُ مُعْرِضُونَ﴾ ﴿ما كانَ لِيَ مِن عِلْمٍ بِالمَلإ الأعْلى إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿إنْ يُوحى إلَيَّ إلا أنَّما أنا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ ﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ ﴿إلا إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾
الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هو نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ إلى التَوْحِيدِ والمَعادِ، فَهي إلى القُرْآنِ وجَمِيعِ ما تَضَمَّنَهُ وعْدُهُ أنَّ التَصْدِيقَ بِهِ نَجاةٌ والتَكْذِيبَ بِهِ هَلَكَةٌ. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّ شُرَيْحًا اخْتَصَمَ إلَيْهِ أعْرابِيٌّ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ، فَأرادَ شُرَيْحٌ أنْ يُنَفِّذَ الحُكْمَ، فَقالَ الأعْرابِيُّ: أتَحْكُمُ عَلَيَّ بِالنَبَأِ؟ فَقالَ شُرَيْحٌ: نَعَمْ، إنَّ اللهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾، وقَرَأ الآيَةَ، وحَكَمَ عَلَيْهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا الجَوابُ مِن شُرَيْحٍ إنَّما هو بِحَسَبِ لَفْظِ الأعْرابِيِّ، ولَمْ يُحَرِّرْ مَعَهُ الكَلامَ، وإنَّما قَصَدَ إلى ما يَقْطَعُهُ بِهِ؛ لِأنَّ الأعْرابِيَّ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَهادَةِ والنَبَأِ، و"النَبَأُ" في كَلامِ العَرَبِ بِمَعْنى: الخَبَرِ. ووَبَّخَهم تَبارَكَ وتَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أنْتُمْ عنهُ مُعْرِضُونَ.﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿ما كانَ لِيَ مِن عِلْمٍ بِالمَلإ الأعْلى إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، وهَذا احْتِجاجٌ لِصِحَّةِ أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ كَأنَّهُ يَقُولُ: هَذا أمْرٌ خَطِيرٌ، وأنْتُمْ تُعْرِضُونَ عنهُ مَعَ صِحَّتِهِ، ودَلِيلُ صِحَّتِهِ أنِّي أُخْبِرُكم فِيهِ بِغُيُوبٍ لَمْ تَأْتِ إلّا مِن عِنْدِ اللهِ، فَإنِّي لَمْ يَكُنْ لِي عِلْمٌ بِالمَلَأِ الأعْلى وقْتَ خُصُومَتِهِمْ لَوْلا أنَّ اللهَ تَعالى أخْبَرَنِي بِذَلِكَ. وأرادَ بِهِ المَلائِكَةَ، والضَمِيرُ في ﴿ "يَخْتَصِمُونَ"﴾ عِنْدَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ هو لِلْمَلائِكَةِ.
(p-٣٦٢)واخْتَلَفَ الناسُ في الشَيْءِ الَّذِي هو اخْتِصامُهم فِيهِ، فَقالَتْ: فِرْقَةٌ اخْتِصامُهم في أمْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ وذُرِّيَّتِهِ في جَعْلِهِمْ في الأرْضِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما يَأْتِي مِنَ الآياتِ، فَقَوْلُ المَلائِكَةِ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِماءَ﴾ [البقرة: ٣٠] هو الِاخْتِصامُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلِ اخْتِصامُهم في الكَفّاراتِ وغَفْرِ الذُنُوبِ ونَحْوِهِ؛ فَإنَّ العَبْدَ إذا فَعَلَ حَسَنَةً اخْتَلَفَتِ المَلائِكَةُ في قَدْرِ ثَوابِهِ في ذَلِكَ حَتّى يَقْضِيَ اللهُ بِما شاءَ، ووَرَدَ في هَذا حَدِيثٌ فَسَرَّهُ ابْنُ فُورَكَ؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ «أنَّ النَبِيَّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ قالَ لَهُ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ في نَوْمِهِ: فِيمَ يَخْتَصِمُونَ؟ فَقُلْتُ: لا أدْرِي، فَقالَ: في الكَفّاراتِ، وهِيَ: إسْباغُ الوُضُوءِ في السَبَراتِ، ونَقْلُ الخُطى إلى الجَماعاتِ، الحَدِيثَ بِطُولِهِ، قالَ: "فَوَضَعَ اللهُ سُبْحانَهُ وتَعالى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتّى وجَدْتُ بَرْدَها بَيْنَ ثَدْيَيَّ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَتَفْسِيرُ هَذا الحَدِيثِ أنَّ اليَدَ هي نِعْمَةُ العِلْمِ، وقَوْلُهُ ﷺ: بَرْدَها، أيِ: السُرُورَ بِها والثَلَجَ، كَما تَقُولُ العَرَبُ في الأمْرِ السارِّ: يا بَرْدَهُ عَلى الكَبِدِ، ونَحْوِ هَذا، ومِنهُ قَوْلُ (p-٣٦٣)النَبِيِّ ﷺ: « "الصَلاةُ بِاللَيْلِ هي الغَنِيمَةُ البارِدَةُ"،» أيِ: السَهْلَةُ الَّتِي يُسَرُّ بِها الإنْسانُ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِـ ﴿بِالمَلإ الأعْلى﴾ المَلائِكَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ مَقْطُوعٌ مِنهُ، مَعْناهُ: إذْ تَخْتَصِمُ العَرَبُ الكافِرَةُ في المَلَإ الأعْلى، فَيَقُولُ بَعْضُها: هي بَناتُ اللهِ، ويَقُولُ بَعْضُها: هي آلِهَةٌ تُعْبَدُ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أقْوالِهِمْ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ بِـ " المَلَأ الأعْلى " قُرَيْشًا، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لا يَتَقَوّى مِن جِهَةٍ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "إلا أنَّما"﴾ بِفَتْحِ الألِفِ كَأنَّهُ يَقُولُ: إلّا الإنْذارَ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: "إلّا إنَّما" عَلى الحِكايَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: "أنْتَ نَذِيرٌ مُبِينٌ"، فَحَكى هو المَعْنى، وهَذا كَما يَقُولُ الإنْسانُ أنا عالِمٌ؟ فَيُقالُ لَهُ: أنْتَ عالِمٌ، فَيَحْكِي المَعْنى.
و"إذْ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ﴾ بَدَلٌ مِن "إذْ" الأُولى، عَلى تَأْوِيلِ مَن رَأى الخُصُومَةَ في شَأْنِ مَن يُسْتَخْلَفُ في الأرْضِ، وعَلى الأقْوالِ الأُخْرى يَكُونُ العامِلُ في "إذْ" الثانِيَةِ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ إذْ قالَ، و"البَشَرُ المَخْلُوقُ" هو آدَمُ عَلَيْهِ السَلامُ. و"سَوَّيْتُهُ" يُرِيدُ بِهِ شَخْصَهُ. و"نَفَخْتُ فِيهِ" عِبارَةٌ عن إجْراءِ الرُوحِ فِيهِ، وهي عِبارَةٌ عَلى نَحْوِ ما يُفْهَمُ مِن إجْراءِ الأشْياءِ بِالنَفْخِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن رُوحِي﴾ هي إضافَةُ مِلْكٍ إلى مالِكٍ ؛ لِأنَّ الأرْواحَ كُلَّها هي مِلْكٌ لِلَّهِ تَبارَكَ وتَعالى، وأضافَ إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "ساجِدِينَ"﴾ اخْتَلَفَ الناسُ فِيهِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: عَلى السُجُودِ المُتَعارَفِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: خاضِعِينَ، عَلى أصْلِ السُجُودِ في اللُغَةِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ المَلائِكَةَ بِأمْرِهِ سَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ فَإنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَنِ السُجُودِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ: وكانَ مِن أوَّلِ أمْرِهِ مِنَ الكافِرِينَ في عِلْمِ اللهِ تَعالى، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ: ووُجِدَ عِنْدَ هَذِهِ (p-٣٦٤)الغَفْلَةِ مِنَ الكافِرِينَ، وعَلى القَوْلَيْنِ فَقَدْ حَكَمَ اللهُ عَلى إبْلِيسَ بِالكُفْرِ، وأخْبَرَ أنَّهُ كانَ قَدْ عَقَدَ قَلْبَهُ في وقْتِ الِامْتِناعِ.
{"ayahs_start":67,"ayahs":["قُلۡ هُوَ نَبَؤٌا۟ عَظِیمٌ","أَنتُمۡ عَنۡهُ مُعۡرِضُونَ","مَا كَانَ لِیَ مِنۡ عِلۡمِۭ بِٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰۤ إِذۡ یَخۡتَصِمُونَ","إِن یُوحَىٰۤ إِلَیَّ إِلَّاۤ أَنَّمَاۤ أَنَا۠ نَذِیرࣱ مُّبِینٌ","إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی خَـٰلِقُۢ بَشَرࣰا مِّن طِینࣲ","فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ","فَسَجَدَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ","إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"],"ayah":"فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق