الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا أيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الشَيْطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ﴾ ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وشَرابٌ﴾ ﴿وَوَهَبْنا لَهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهم رَحْمَةً مِنّا وذِكْرى لأُولِي الألْبابِ﴾ ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ إنّا وجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ﴾ أيُّوبُ هو نَبِيٌّ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، مِن ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ، وهو المُبْتَلى في (p-٣٥١)جَسَدِهِ ومالِهِ وأهْلِهِ، وسَلِمَ مُعْتَقَدُهُ ودِينُهُ. ورُوِيَ في ذَلِكَ أنَّ اللهَ سَلَّطَ الشَيْطانَ عَلَيْهِ لِيَفْتِنَهُ عن دِينِهِ، فَأصابَهُ في مالِهِ، وقالَ لَهُ: إنْ أطَعْتَنِي رَجَعَ مالُكَ، فَلَمْ يُطِعْهُ، فَأصابَهُ في أهْلِهِ ووَلَدِهِ، فَهَلَكُوا عن آخِرِهِمْ، وقالَ لَهُ: لَوْ أطَعْتَنِي رَجَعُوا، فَلَمْ يُطِعْهُ، فَأصابَهُ في جَسَدِهِ، فَثَبَتَ أيُّوبُ عَلى أمْرِ اللهِ سَبْعَ سِنِينَ وسَبْعَةَ أشْهُرٍ. قالَهُ قَتادَةُ، ورَوى أنَسٌ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ بَقِيَ في مِحْنَتِهِ ثَمانِيَ عَشَرَ سَنَةً يَتَساقَطُ لَحْمُهُ حَتّى مَلَّهُ العالَمُ، ولَمْ يَصْبِرْ عَلَيْهِ إلّا امْرَأتُهُ.» ورُوِيَ أنَّ السَبَبَ الَّذِي امْتَحَنَهُ اللهُ تَعالى مِن أجْلِهِ هُوَ: أنَّهُ دَخَلَ عَلى بَعْضِ المُلُوكِ فَرَأى مُنْكَرًا فَلَمْ يُغَيِّرْهُ. ورُوِيَ أنَّ السَبَبَ أنَّهُ ذَبَحَ شاةً وطَبَخَها وأُكِلَتْ عِنْدَهُ وجارُهُ جائِعٌ لَمْ يُعْطِهِ مِنها شَيْئًا، ورُوِيَ أنَّ أيُّوبَ لَمّا تَناهى بَلاؤُهُ وصَبْرُهُ، مَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِمَّنْ كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُما مَعْرِفَةٌ فَقَرَّعاهُ وقالا لَهُ: لَقَدْ أذْنَبَتْ ذَنْبًا ما أذْنَبَ أحَدٌ مِثْلَهُ، وفَهِمَ مِنهُما شَماتًا بِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعا ونادى رَبَّهُ. وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿مَسَّنِيَ الشَيْطانُ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُشِيرَ إلى مَسِّهِ حِينَ سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ حَسْبَما ذَكَرْنا، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ مَسَّهُ إيّاهُ حِينَ حَمَلَهُ مِن أوَّلِ الأمْرِ عَلى أنْ يُواقِعَ الذَنْبَ الَّذِي مِن أجْلِهِ كانَتِ المِحْنَةُ: إمّا تَرْكُ التَغْيِيرِ عِنْدَ المَلِكِ، وإمّا تَرْكُ مُواساةِ الجارِ، وقِيلَ: أشارَ إلى مَسِّهِ إيّاهُ في تَعَرُّضِهِ لِأهْلِهِ، وطَلَبِهِ مِنهُ أنْ يُشْرِكَ بِاللهِ، فَكانَ أيُّوبُ قَدْ تَشَكّى هَذا الفِعْلَ، وكانَ أشَدَّ عَلَيْهِ مِن مَرَضِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ (أنِّي)﴾ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وكَسَرَها عِيسى بْنُ عُمَرَ، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "بِنُصْبٍ"﴾ بِضَمِّ النُونِ وسُكُونِ الصادِ، وقَرَأ هُبَيْرَةُ عن حَفْصٍ عن عاصِمٍ بِفَتْحِها، وهي قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ، ويَعْقُوبَ، (p-٣٥٢)وَرُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ، وأبِي جَعْفَرٍ، وقَرَأ أبُو عُمارَةَ عن حَفْصٍ عن عاصِمٍ "بِنُصُبٍ" بِضَمِّ النُونِ والصادِ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرِ بْنِ القَعْقاعِ والحَسَنِ - بِخِلافٍ عنهُ - ورَوى أيْضًا هُبَيْرَةُ عن حَفْصٍ عن عاصِمٍ بِفَتْحِ النُونِ وسُكُونِ الصادِ. وذَلِكَ كُلُّهُ بِمَعْنًى واحِدٍ، مَعْناهُ: المَشَقَّةُ، وكَثِيرًا ما يُسْتَعْمَلُ "النَصَبُ" في مَشَقَّةِ الإعْياءِ. وفَرَّقَ بَعْضُ الناسِ بَيْنَ هَذِهِ الألْفاظِ، والصَوابُ أنَّها لُغاتٌ مِن قَوْلِهِمْ: "أنْصَبَنِي الأمْرُ ونَصَبَنِي" إذا شَقَّ عَلَيَّ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تَعَنّاكَ نَصْبٌ مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبٌ ومِنهُ قَوْلُ النابِغَةِ: ؎ كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيْمَةُ ناصِبِ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ قِيلَ في هَذا البَيْتِ: إنَّ "ناصِبًا" بِمَعْنى "مُنْصِبٍ"، وأنَّهُ عَلى النَسَبِ، أيْ ذا نَصْبٍ. وهُنا في الآيَةِ مَحْذُوفٌ كَثِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: فاسْتَجابَ لَهُ وقالَ لَهُ: " ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ "﴾، (p-٣٥٣)والرَكْضُ: الضَرْبُ بِالرِجْلِ، والمَعْنى: ارْكُضِ الأرْضَ، ورُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّ هَذا الأمْرَ كانَ في الجابِيَةِ مِن أرْضِ الشامِ، ورُوِيَ أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ أُمِرَ بِرَكْضِ الأرْضِ فَرَكَضَ فِيها فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنُ ماءٍ صافِيَةٌ بارِدَةٌ، فَشَرِبَ مِنها، فَذَهَبَ كُلُّ مَرَضٍ في داخِلِ جَسَدِهِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فَذَهَبَ ما كانَ في ظاهِرِ بَدَنِهِ، ورُوِيَ أنَّهُ رَكَضَ مَرَّتَيْنِ، ونَبَعَ لَهُ عَيْنانِ: شَرِبَ مِن إحْداهُما واغْتَسَلَ في الأُخْرى. وقَرَأ نافِعٌ، وشَيْبَةُ، وعاصِمٌ، والأعْمَشُ: "وَعَذابٌ ارْكُضْ" بِضَمِّ نُونِ التَنْوِينِ، وقَرَأ عامَّةُ قُرّاءِ البَصْرَةِ بِكَسْرِها. و"مُغْتَسَلٌ" مَعْناهُ: مَوْضِعُ غُسْلٍ، وماءُ غُسْلٍ، كَما تَقُولُ: هَذا الأمْرُ مُعْتَبَرٌ، وهَذا الماءُ مُغْتَسَلٌ مِثْلُهُ ورُوِيَ أنَّ اللهَ تَعالى وهَبَ لَهُ أهْلَهُ ومالَهُ في الدُنْيا، ورَدَّ مَن ماتَ مِنهُمْ، وما هَلَكَ مِن ماشِيَتِهِ، وحالِهِ ثُمَّ بارَكَ في جَمِيعِ ذَلِكَ، ووُلِدَ لَهُ الأولادُ حَتّى تَضاعَفَ الحالُ، ورُوِيَ أنَّ هَذا كُلَّهُ وعْدٌ في الآخِرَةِ، أيْ: يَفْعَلُ اللهُ لَهُ ذَلِكَ في الآخِرَةِ. والأوَّلُ أكْثَرُ في قَوْلِ المُفَسِّرِينَ. و"رَحْمَةً" نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَذِكْرى"﴾ مَعْناهُ: مَوْعِظَةً وتَذْكِرَةً يَعْتَبِرُ بِها أُولُو العُقُولِ، ويَتَأسَّوْنَ بِصَبْرِهِ في الشَدائِدِ، ولا يَيْأسُونَ مِن رَحْمَةِ اللهِ عَلى حالٍ. ورُوِيَ أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ كانَتْ زَوْجَتُهُ مُدَّةَ مَرَضِهِ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ فَيَلْقاها الشَيْطانُ في صُورَةِ طَبِيبٍ، ومَرَّةً في هَيْئَةِ ناصِحٍ، وعَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَقُولُ لَها: لَوْ سَجَدَ هَذا المَرِيضُ لِلصَّنَمِ الفُلانِيِّ لَبَرِئَ، لَوْ ذَبَحَ عَناقًا لِلصَّنَمِ الفُلانِيِّ لَبَرِئَ، ويَعْرِضُ عَلَيْها وُجُوهًا مِنَ الكُفْرِ، فَكانَتْ هي رُبَّما عَرَضَتْ ذَلِكَ عَلى أيُّوبَ، فَيَقُولُ لَها: ألَقِيتِ عَدُوَّ اللهِ في طَرِيقِكِ؟ فَلَمّا أغْضَبَتْهُ بِهَذا ونَحْوِهِ، حَلَفَ لَها لَئِنْ بَرِئَ مِن مَرَضِهِ لِيَضْرِبَنَّها مِئَةَ سَوْطٍ، فَلَمّا بَرِئَ أمَرَهُ اللهُ أنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فِيهِ مِئَةُ قَضِيبٍ. و"الضِغْثُ": القَبْضَةُ الكَبِيرَةُ مِنَ القُضْبانِ ونَحْوِها مِنَ الشَجَرِ الرَطْبِ، قالَهُ الضَحّاكُ وأهْلُ اللُغَةِ، فَيَضْرِبَ بِهِ ضَرْبَةً واحِدَةً فَتَبَرَّ يَمِينُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "ضِغْثٌ عَلى إبّالَةٍ"، والإبّالَةُ: الحُزْمَةُ مِنَ الحَطَبِ، قالَ الشاعِرُ:(p-٣٥٤) ؎ وأسْفَلَ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُها ∗∗∗ ∗∗∗ وألْقَيْتُ ضِغْثًا مِن خَلًا مُتَطَيِّبِ هَذا حُكْمٌ قَدْ ورَدَ في شَرْعِنا عَنِ النَبِيِّ مِثْلُهُ في حَدِّ رَجُلٍ زَمِنٍ بِالزِنى، فَأمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِعِذْقِ نَخْلَةٍ فِيهِ مِئَةُ شِمْراخٍ أو نَحْوُها، فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً، ذَكَرَ الحَدِيثَ أبُو داوُدَ، وقالَ بِهَذا بَعْضُ فُقَهاءِ الأُمَّةِ، ولَيْسَ يَرى ذَلِكَ مالِكٌ وأصْحابُهُ، وكَذَلِكَ جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى تَرْكِ القَوْلِ بِهِ، وأنَّ الحُدُودَ والبِرَّ في الأيْمانِ لا يَقَعُ إلّا بِتَمامِ عَدَدِ الضَرَباتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب