الباحث القرآني

(p-٢٨٢)قوله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿فَواكِهُ وهم مُكْرَمُونَ﴾ ﴿فِي جَنّاتِ النَعِيمِ﴾ ﴿عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ ﴿بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ ﴿لا فِيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنْزَفُونَ﴾ ﴿وَعِنْدَهم قاصِراتُ الطَرْفِ عِينٌ﴾ ﴿كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ ﴿ "أُولَئِكَ"﴾ إشارَةٌ إلى العِبادِ المُخْلَصِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿ "مَعْلُومٌ"،﴾ مَعْناهُ: عِنْدَهُمْ، فَقَدْ قَرَّتْ عُيُونُهم بِعِلْمِ ما يَسْتَدِرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِزْقِ، وبِأنَّ شَهَواتِهِمْ تَأْتِيهِمْ لِحِينِها، وإلّا فَلَوْ كانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ اللهِ تَعالى فَقَطْ لَما تَخَصَّصَ أهْلُ الجَنَّةِ بِشَيْءٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وَهم مُكْرَمُونَ﴾ تَتْمِيمٌ بَلِيغٌ لِلنَّعِيمِ؛ لِأنَّهُ رُبَّ مَرْزُوقٍ غَيْرُ مُكْرَمٍ، وذَلِكَ أعْظَمُ التَنْكِيلِ. و"السُرُرُ": جَمْعُ سَرِيرٍ، وقَرَأ أبُو السَمّالِ بِفَتْحِ الراءِ الأُولى، وفي هَذا التَقابُلِ حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهم في الجِنانِ وتُرْفَعُ عنهم سُتُورٌ فَيَنْظُرُ بَعْضُهم إلى بَعْضٍ، ولا مَحالَةَ أنَّ بَعْضَ أحْيانِهِمْ فِيها مُتَخَيِّرُونَ في قُصُورِهِمْ. و"يُطافُ" مَعْناهُ: يَطُوفُ الوِلْدانِ، حَسْبَما فَسَّرَتْهُ آيَةٌ أُخْرى، و"الكَأْسُ" قالَ الزَجّاجُ، والطَبَرِيُّ، وغَيْرُهُما: هو الإناءُ الَّذِي فِيهِ خَمْرٌ أو ما يَجْرِي مَجْراهُ مِنَ الأنْبِذَةِ ونَحْوِها، ولا تُسَمّى كَأْسًا إلّا وفِيها هَذا المَشْرُوبُ المَذْكُورُ، وقالَ الضَحّاكُ: كُلُّ كَأْسٍ في القُرْآنِ فَهو خَمْرٌ، وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّ الكَأْسَ آنِيَةٌ مَخْصُوصَةٌ في الأوانِي، وهو كُلُّ ما اتَّسَعَ فَمُهُ ولَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْبَضٌ، ولا يُراعى في ذَلِكَ كَوْنُهُ بِخَمْرٍ أمْ لا. وقَوْلُهُ: ﴿مِن مَعِينٍ﴾ يُرِيدُ: مِن جارٍ مُطَّرِدٍ، فالمِيمُ في مَعِينٍ أصْلِيَّةٌ؛ لِأنَّهُ مِنَ الماءِ المَعِينِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِنَ العَيْنِ فَتَكُونُ المِيمُ زائِدَةً، أيْ: مِمّا يُعَيَّنُ بِالعَيْنِ غَيْرَ مَسْتُورٍ ولا في حِرْزٍ، وخَمْرُ الدُنْيا إنَّما هي مَعْصُورَةٌ مُخْتَزَنَةٌ، وخَمْرُ الآخِرَةِ جارِيَةٌ أنْهارًا. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا فِيها﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الكَأْسِ أو عَلى الخَمْرِ، وهو الأظْهَرُ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: خَمْرُ الجَنَّةِ أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَبَنِ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: [صَفْراءَ]، فَهَذا مَوْصُوفٌ بِهِ الخَمْرُ وحْدَها، و ﴿لَذَّةٍ لِلشّارِبِينَ﴾ أيْ: ذاتُ لَذَّةٍ، فَوَصَفَها بِالمَصْدَرِ اتِّساعًا، وقَدِ اسْتُعْمِلَ هَذا حَتّى قِيلَ: لَذَّ بِمَعْنى: لَذِيذٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٢٨٣) ؎ بِحَدِيثِكَ اللَذِّ الَّذِي لَوْ كُلِّمَتْ ∗∗∗ أسْدُ الفَلاةِ بِهِ أتَيْنَ سِراعًا وقَوْلُهُ: ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ لَمْ تَعْمَلْ "لا"؛ لِأنَّ الظَرْفَ حالَ بَيْنَها وبَيْنَ ما شَأْنُها أنْ تَعْمَلَ فِيهِ. و"الغَوْلُ": اسْمٌ عامٌّ في الأذى، تَقُولُ: غالَهُ كَذا إذا أضَرَّهُ في خَفاءٍ، ومِنهُ الغِيلَةُ في القَتْلِ، «وَقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في الرَضاعِ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أنْهى عَنِ الغِيلَةِ"،» ومِنَ اللَفْظَةِ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ مَضى أوَّلُونا ناعِمِينِ بِعَيْشِهِمْ ∗∗∗ ∗∗∗ جَمِيعًا وغالَتْنِي بِمَكَّةَ غُولُ أيْ: عاقَتْنِي عَوائِقٌ، فَهَذا مَعْنًى مِن مَعانِي "الغَوْلِ"، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ في مَثَلٍ مِنَ الأمْثالِ: "ما لَهُ عَمَلٌ ما أغالَهُ"، يُضْرَبُ لِلرَّجُلِ الحَدِيدِ الَّذِي لا يَقُومُ لِأمْرٍ إلّا أغْنى فِيهِ، أوِ الرَجُلِ يُدْعى لَهُ بِأنْ يُؤَدِّيَ ما أدّاهُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسِ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ: الغَوْلُ وجَعٌ في البَطْنِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسِ أيْضًا، وقَتادَةُ: هو صُداعٌ في الرَأْسِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والِاسْمُ أعَمُّ مِن هَذا كُلِّهِ، فَنَفى عن خَمْرِ الجَنَّةِ جَمِيعَ أنْواعِ الأذى، إذْ هي مَوْجُودَةٌ في خَمْرِ الدُنْيا، وقَدْ نَحا إلى هَذا العُمُومِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالُنا ∗∗∗ ∗∗∗ وتَذْهَبُ بِالأوَّلِ الأوَّلِ (p-٢٨٤)أيْ: تُؤْذِينا بِذَهابِ العَقْلِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "يُنْزَفُونَ" بِفَتْحِ الزايِ، وكَذَلِكَ في الواقِعَةِ، مِن قَوْلِكَ: نَزَفَ الرَجُلُ إذا سَكِرَ، ونَزَفَتْهُ الخَمْرُ، والنَزِيفُ: السَكْرانُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَلَثَمْتُ فاها آخِذًا بِقُرُونِها ∗∗∗ ∗∗∗ شُرْبَ النَزِيفِ بِبَرْدِ ماءِ الحَشْرَجِ وبِإذْهابِ العَقْلِ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ "يُنْزِفُونَ"، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِكَسْرِ الزايِ، وكَذَلِكَ في الواقِعَةِ، مِن: أنْزَفَ بِمَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما سَكِرَ، ومِنهُ قَوْلُ الأُبَيْرِدِ الرِياحَيِّ: ؎ لَعَمْرِي لَئِنْ أنَزَفْتُمْ أو صَحَوْتُمْ ∗∗∗ ∗∗∗ لَبِئْسَ النَدامى كُنْتُمُ آلَ أبْجَرا (p-٢٨٥)والثانِي: بَعُدَ شَرابُهُ، يُقالُ: أنْزَفَ الرَجُلُ إذا تَمَّ شَرابُهُ، فَهَذا كُلُّهُ مَنفِيٌّ عن أهْلِ الجَنَّةِ، وقَرَأ عاصِمٌ هُنا بِفَتْحِ الزايِ، وفي الواقِعَةِ بِكَسْرِ الزايِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحَقَ بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الزايِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قاصِراتُ الطَرْفِ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وقَتادَةُ: مَعْناهُ: عَلى أزْواجِهِنَّ، أيْ لا يَنْظُرْنَ إلى غَيْرِهِمْ، ولا يَمْتَدُّ طَرْفُ إحْداهُنَّ إلى أجْنَبِيٍّ، فَهَذا هو قَصْرُ الطَرْفِ. و"عِينٌ": جُمَعُ عَيْناءَ، وهي الكَبِيرَةُ العَيْنَيْنِ في جَمالٍ. وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ فاخْتَلَفَ الناسُ، ما هُوَ؟ فَقالَ السُدِّيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ: شِبَّهَ ألْوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ البَيْضَةِ الداخِلِيِّ، وهو الغِرْقِئُ، وهو المَكْنُونُ، أيِ: المَصُونُ في كِنٍّ، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ، قالَ: وأمّا خارِجُ قِشْرِ البَيْضَةِ فَلَيْسَ بِمَكْنُونٍ، وقالَ الجُمْهُورُ: شَبَّهَ ألْوانَهُنَّ بِلَوْنِ قِشْرِ بَيْضِ النَعامِ، وهو بَياضٌ قَدْ خالَطَ صُفْرَةً حَسَنَةً، قالُوا: والبَيْضُ نَفْسُهُ في الأغْلَبِ هو المَكْنُونُ بِالرِيشِ، ومَتى شَذَّتْ بِهِ حالٌ فَلَمْ يَكُنْ مَكْنُونًا خَرَجَ عن أنْ يُشَبَّهَ بِهِ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وابْنِ زَيْدٍ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎ كَبَكْرِ المُقاناةِ البَياضِ بِصُفْرَةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ غَذاها نَمِيرُ الماءِ غَيْرُ المُحَلَّلِ (p-٢٨٦)وَهَذِهِ المَعْنى كَثِيرٌ في أشْعارِ العَرَبِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما - فِيما حَكى الطَبَرِيُّ -: البِيضُ المَكْنُونُ أرادَ بِهِ الجَوْهَرَ المَصُونَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لا يَصِحُّ عِنْدِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما؛ لِأنَّهُ تَرُدُّهُ اللَفْظَةُ مِنَ الآيَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما شَبَّهَهُنَّ تَعالى بِالبَيْضِ المَكْنُونِ تَشْبِيهًا عامًّا، جُمْلَةِ المَرْأةِ بِجُمْلَةِ البَيْضَةِ، وأرادَ بِذَلِكَ: تَناسُبَ أجْزاءِ المَرْأةِ، وأنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنها نِسْبَتُهُ في الجَوْدَةِ إلى نَوْعِهِ نِسْبَةُ الآخَرِ مِن أجْزائِهِ إلى نَوْعِهِ، فَنِسْبَةُ شَعْرِها إلى عَيْنِها مُسْتَوِيَةٌ إذْ هُما غايَةٌ في نَوْعِهِما، والبَيْضَةُ أشَدُّ الأشْياءِ تَناسُبَ أجْزاءٍ؛ لِأنَّكَ مِن حَيْثُ جِئْتَها فالنَظَرُ فِيها واحِدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب