(p-٣١٥)قوله عزّ وجلّ:
﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ولَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾ ﴿سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿إلا عِبادَ اللهِ المُخْلَصِينَ﴾ ﴿فَإنَّكم وما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿ما أنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ﴾ ﴿إلا مَن هو صالِ الجَحِيمِ﴾ ﴿وَما مِنّا إلا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾ ﴿وَإنّا لَنَحْنُ الصافُّونَ﴾ ﴿وَإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ ﴿وَإنْ كانُوا لَيَقُولُونَ﴾ ﴿لَوْ أنَّ عِنْدَنا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿لَكُنّا عِبادَ اللهِ المُخْلَصِينَ﴾
الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "وَجَعَلُوا"﴾ لِفِرْقَةٍ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في كِتابِ الطَبَرِيِّ: إنَّ بَعْضَهم قالَ: إنَّ اللهَ وإبْلِيسَ أخَوانِ، وقالَ مُجاهِدٌ: قالَ قَوْمٌ لِأبِي بَكْرٍ الصَدِيقِ: إنَّ اللهَ تَعالى نَكَحَ في سَرَواتِ الجِنِّ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ المَلائِكَةَ بَناتُهُ، فـَ "الجِنَّةُ" عَلى هَذا القَوْلِ الأخِيرِ يَقَعُ عَلى المَلائِكَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها مُسْتَجِنَّةً، أيْ: مُسْتَتِرَةً.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إنَّهم لَمُحْضَرُونَ﴾. مَن جَعَلَ "الجِنَّةَ" الشَياطِينَ جَعَلَ العَلامَةَ في ﴿ "عَلِمَتِ"،﴾ والضَمِيرَ في ﴿ "إنَّهُمْ"﴾ عائِدًا عَلَيْهِمْ. أيْ: جَعَلُوا الشَياطِينَ لَيْسَتْ مِنَ اللهِ، والشَياطِينُ تَعْلَمُ ضِدَّ ذَلِكَ مِن أنَّها سَتَحْضُرُ أمْرَ اللهِ وثَوابَهُ وعِقابَهُ. ومِن جَعَلَ "الجِنَّةَ" المَلائِكَةَ جَعَلَ الضَمِيرَ في "إنَّهُمْ" لِلْقائِلِينَ هَذِهِ المَقالَةِ، أيْ: عَلِمَتِ المَلائِكَةُ أنَّ هَؤُلاءِ الكَفَرَةَ سَيَحْضُرُونَ ثَوابَ اللهِ وعِقابَهُ، وقَدْ يَتَداخَلُ هَذانَ القَوْلانِ.
ثُمَّ نَزَّهَ تَبارَكَ وتَعالى نَفْسَهُ عَمّا يَصِفُهُ الناسُ ولا يَلِيقُ بِهِ، ومِن هَذا اسْتَثْنى العِبادَ المُخْلَصِينَ؛ لِأنَّهم يَصِفُونَهُ بِصِفاتِهِ العُلى، وقالَتْ فِرْقَةٌ: اسْتَثْناهم مِن قَوْلِهِ: ﴿ "لَمُحْضَرُونَ"،﴾ وهَذا يَصِحُّ عَلى قَوْلِ مَن رَأى ﴿ "الجِنَّةِ"﴾ المَلائِكَةَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّكم وما تَعْبُدُونَ﴾ بِمَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدٌ: إنَّكم وأصْنامَكم ما أنْتُمْ بِمُضِلِّينَ أحَدًا بِسَبَبِها، إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَضاءُ وضَمَّهُ القَدَرُ، بِأنَّهُ يَصْلى الجَحِيمَ في الآخِرَةِ، ولَيْسَ عَلَيْكم إضْلالُ مِن هَدى اللهُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "عَلَيْهِ" بِمَعْنى "فِيهِ"، و"الفاتِنُ": المُضِلُّ في هَذا المَوْضِعِ، وكَذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وقالَ ابْنُ الزُبَيْرِ عَلى المِنبَرِ: "إنَّ اللهَ هو الهادِي والفاتِنُ"، و"مَن" في مَوْضِعِ (p-٣١٦)نَصْبٍ بِـ"فاتِنِينَ". وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "صالِ الجَحِيمِ"﴾ بِكَسْرِ اللامِ مِن "صالِ"، حُذِفَتِ الياءُ لِلْإضافَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "صالُ الجَحِيمِ" بِضَمِّ اللامِ، ولِلنُّحاةِ في مَعْناهُ اضْطِرابُ أقْوالٍ، وأقْواها أنَّهُ "صالُونَ" حُذِفَتِ النُونُ لِلْإضافَةِ، ثُمَّ حُذِفَتِ الواوُ لِلِالتِقاءِ، وخَرَجَ لَفْظُ الجَمِيعِ بَعْدَ لَفْظِ الإفْرادِ، فَهو كَما قالَ تَعالى: ﴿وَمِنهم مَن يَسْتَمِعُونَ﴾ [يونس: ٤٢]، إذْ لَمّا كانَتْ (مَن) وهي مِنَ الأسْماءِ الَّتِي فِيها إبْهامٌ ويُكَنّى بِها عن أفْرادٍ وجَمْعٍ.
ثُمَّ حَكى قَوْلَ المَلائِكَةِ: ﴿وَما مِنّا إلا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ﴾، وهَذا يُؤَيِّدُ أنَّ "الجِنَّةَ" أرادَ بِها المَلائِكَةَ، كَأنَّهُ قالَ ولَقَدْ عَلِمَتْ كَذا، وإنَّ قَوْلَنا لِكَذا، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: ما مِنّا مَلَكٌ، ورَوَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "إنَّ السَماءَ ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وعَلَيْهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ أو قَدَماهُ"،» وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَإنَّ كُلُّنا إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ".
و"الصافُّونَ" مَعْناهُ: الواقِفُونَ صُفُوفًا، و"المُسَبِّحُونَ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ الصَلاةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ قَوْلَ: "سُبْحانَ اللهِ"، ورُوِيَ عن عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ كانَ إذا أُقِيمَتِ الصَلاةُ صَرَفَ وجْهَهَ إلى الناسِ فَيَقُولُ لَهُمْ: عَدِّلُوا صُفُوفَكم وأقِيمُوها، فَإنَّ اللهَ إنَّما يُرِيدُ بِكم هَدْيَ المَلائِكَةِ، فَإنَّها تَقُولُ: ﴿وَإنّا لَنَحْنُ الصافُّونَ﴾ ﴿وَإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾، ثُمَّ يَرى تَقْوِيمَ الصُفُوفِ، وعِنْدَ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ ويُكَبِّرُ، قالَ الزَهْراوِيُّ: قِيلَ: إنَّ المُسْلِمِينَ إنَّما اصْطَفُّوا مُنْذُ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، ولا يَصْطَفُّ أحَدٌ مِن أهْلِ المِلَلِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَزَّ وجَلَّ: مَقالَةَ بَعْضِ الكُفّارِ، وقالَ قَتادَةُ، والسُدِّيُّ، والضَحّاكُ: فَإنَّهم قَبْلَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ قالُوا: لَوْ كانَ لَنا كِتابٌ أو جاءَنا رَسُولٌ لَكُنّا مِن أتْقى عِبادِ اللهِ وأشَدِّهِمْ إخْلاصًا، فَلَمّا جاءَهم مُحَمَّدٌ كَفَرُوا فاسْتَوْجَبُوا ألِيمَ العِقابِ.
{"ayahs_start":158,"ayahs":["وَجَعَلُوا۟ بَیۡنَهُۥ وَبَیۡنَ ٱلۡجِنَّةِ نَسَبࣰاۚ وَلَقَدۡ عَلِمَتِ ٱلۡجِنَّةُ إِنَّهُمۡ لَمُحۡضَرُونَ","سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یَصِفُونَ","إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ","فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ","مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ بِفَـٰتِنِینَ","إِلَّا مَنۡ هُوَ صَالِ ٱلۡجَحِیمِ","وَمَا مِنَّاۤ إِلَّا لَهُۥ مَقَامࣱ مَّعۡلُومࣱ","وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلصَّاۤفُّونَ","وَإِنَّا لَنَحۡنُ ٱلۡمُسَبِّحُونَ","وَإِن كَانُوا۟ لَیَقُولُونَ","لَوۡ أَنَّ عِندَنَا ذِكۡرࣰا مِّنَ ٱلۡأَوَّلِینَ","لَكُنَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ"],"ayah":"فَإِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ"}