الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ﴿وَنادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ﴾ ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ ﴿وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿إنَّهُ مِن عِبادِنا المُؤْمِنِينَ﴾
قَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "أسْلَما"﴾ أيْ: أنْفُسَهُما، واسْتَسْلَما لِلَّهِ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وعَبْدُ اللهِ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والثَوْرِيُّ: "سَلَّما"، والمَعْنى: فَوَّضا إلَيْهِ في قَضائِهِ وقَدَرِهِ، وانْحَمَلا عَلى أمْرِهِ، فَأسْلَمَ إبْراهِيمُ ابْنَهُ، وأسْلَمَ الِابْنُ نَفْسَهُ.
واخْتَلَفَ النُحاةُ في جَوابِ (لَمّا)، فَقالَ الكُوفِيُّونَ: الجَوابُ "نادَيْناهُ"، والواوُ زائِدَةٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الجَوابُ: "تَلَّهُ" والواوُ زائِدَةٌ. كَزِيادَتِها فِي: ﴿وَفُتِحَتِ السَماءُ﴾ [النبإ: ١٩]، وقالَ البَصْرِيُّونَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فَلَمّا أسْلَما سَلَّما وتَلَّهُ، وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ، وهو عِنْدَهم كَقَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
؎ فَلَمّا أجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانْتَحى ∗∗∗ بِنا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقافٍ عَقَنْقَلِ
(p-٣٠٣)والتَقْدِيرُ: فَلَمّا أجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ أجَزْنا وانْتَحى. وقالَ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: فَلَمّا أسْلَما وتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أُجْزِلَ أجْرُهُما، أو نَحْوُ هَذا مِمّا يَقْتَضِيهِ المَعْنى. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَتَلَّهُ"﴾ مَعْناهُ: وضَعَهُ بِقُوَّةٍ، ومِنهُ الحَدِيثُ: « " فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ في يَدِهِ"،» أيْ: وضَعَهُ بِقُوَّةٍ، والتَلُّ مِنَ الأرْضِ مَأْخُوذٌ مِن هَذا، كَأنَّهُ تُلَّ في ذَلِكَ المَوْضِعِ، و"لِلْجَبِينِ" مَعْناهُ: لِتِلْكَ الجِهَةِ وعَلَيْها، كَما يَقُولُونَ في المَثَلِ: لِلْيَدَيْنِ والفَمِ، وكَما تَقُولُ: سَقَطَ لِشِقِّهِ الأيْسَرِ، وقالَ ساعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:
فَظَلَّ تَلِيلًا لِلْجَبِينَيْنِ
وهُما ما اكْتَنَفَ الجَبْهَةَ مِن هُنا وهُنا.
ورُوِيَ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الذَبِيحَ قالَ لِأبِيهِ: اشْدُدْ رِباطِي بِالحَبْلِ لِئَلّا أضْطَرِبَ، واصْرِفْ بَصَرَكَ عَنِّي، لِئَلّا تَرْحَمَنِي، ورُدَّ وجْهِي نَحْوَ الأرْضِ، قالَ قَتادَةُ: كَبَّهُ لَفِيهِ وأخَذَ الشَفْرَةَ، والتَلُّ لِلْجَبِينِ لَيْسَ يَقْتَضِي أنَّ الوَجْهَ نَحْوُ الأرْضِ، بَلْ هي هَيْئَةُ مَن ذُبِحَ لِلْقِبْلَةِ عَلى جَنْبِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿أنْ يا إبْراهِيمُ﴾ مُفَسِّرَةٌ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُؤْيا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِقَلْبِكَ، عَلى مَعْنى: كانَتْ (p-٣٠٤)عِنْدَكَ رُؤْياكَ صادِقَةً وحَقًّا مِنَ اللهِ، فَعَمِلَتْ بِحَسْبِها حِينَ آمَنتَ بِها واعْتَقَدَتْ صِدْقَها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: صَدَّقْتَ بِعَمَلِكَ ما حَصَلَ عَنِ الرُؤْيا في نَفْسِكَ، كَأنَّهُ قالَ: قَدْ وفَّيْتَها حَقَّها مِنَ العَمَلِ. والرُؤْيا اسْمٌ لِما يُرى مِن قِبَلِ اللهِ في المَنامِ، والحُلْمُ اسْمٌ لِما يُرى مِن قِبَلِ الشَيْطانِ، ومِنهُ الحَدِيثُ الصَحِيحُ « "الرُؤْيا مِنَ اللهِ والحُلْمُ مِنَ الشَيْطانِ".»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا كَذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى ما عَمِلَ إبْراهِيمُ، كَأنَّهُ يَقُولُ: إنّا بِهَذا النَوْعِ مِنَ الإخْلاصِ والطاعَةِ نَجْزِي المُحْسِنِينَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ هَذا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى ما في القِصَّةِ مِنَ امْتِحانٍ واخْتِبارٍ بِالشِدَّةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى ما في القِصَّةِ مِن سُرُورٍ بِالفِدْيَةِ وإنْقاذٍ مِن تِلْكَ الشِدَّةِ في إنْفاذِ الذَبْحِ، فَيَكُونُ البَلاءُ بِمَعْنى النِعْمَةِ، وإلى كُلِّ احْتِمالٍ قَدْ أشارَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وفي الحَدِيثِ «أنَّ اللهَ تَعالى أوحى إلى إسْحَقَ أنِّي قَدْ أعْطَيْتُكَ بِصَبْرِكَ لِأمْرِي دَعْوَةً أُعْطِيكَ فِيها ما سَألْتَ، فَسَلْنِي، فَقالَ: يا رَبِّ أيُّما عَبْدٍ لَقِيَكَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ لا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا فَأدْخِلْهُ الجَنَّةَ.»
والضَمِيرُ في "فَدَيْناهُ" عائِدٌ عَلى الذَبْحِ، و"الذَبْحُ" اسْمٌ لِما يُذْبَحُ، ووَصَفَهُ بِالعِظَمِ لِأنَّهُ مُتَقَبَّلٌ يَقِينًا، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقالَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ: الذِبْحُ الكَبْشُ، والعَظِيمُ لِجَرْيِ السُنَةِ بِهِ وكَوْنِهِ دِينًا باقِيًا آخِرَ الدَهْرِ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: عَظُمَ لِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللهِ كانَ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عن نَسْلٍ بَلْ عَنِ التَكْوِينِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ كَوْنَهُ عَظِيمًا هو أنَّهُ مِن كِباشِ الجَنَّةِ رَعى فِيها أرْبَعِينَ خَرِيفًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَ ولَدُ آدَمَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ: كانَ وعْلًا أُهْبِطَ عَلَيْهِ مِن ثَبِيرٍ، وقالَ الجُمْهُورُ: إنَّهُ كَبْشٌ أبْيَضُ أقْرَنُ أعْيَنُ، وجَدَهُ وراءَهُ مَرْبُوطًا (p-٣٠٥)بِسَمُرَةٍ، ورُوِيَ أنَّهُ انْفَلَتَ فاتَّبَعَهُ ورَماهُ بِحَصَياتٍ في مَواضِعِ الجَمَراتِ، فَبِذَلِكَ مَضَتِ السُنَةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: رَجَمَ الشَيْطانَ عِنْدَ جَمْرَةِ العَقَبَةِ وغَيْرِها، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا، وأهْلُ السُنَّةِ عَلى أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ نُسِخَ فِيها العَزْمُ عَلى الفِعْلِ، والمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ: إنَّهُ لا يَصِحُّ نَسْخٌ إلّا بَعْدَ وُقُوعِ الفِعْلِ، افْتَرَقَتْ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى فِرْقَتَيْنِ: فَقالَتْ فِرْقَةٌ: وقَعَ الذَبْحُ والتَأمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وهَذا كَذِبٌ صُراحٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمْ: بَلْ كانَ إبْراهِيمُ لَمْ يَرَ في مَنامِهِ إلّا إمْرارَ الشَفْرَةِ فَقَطْ، فَظَنَّ أنَّهُ ذَبْحٌ فَجَهَّزَ، فَنَفَّذَ لِذَلِكَ، فَلِما وقَعَ الَّذِي رَآهُ وقَعَ النَسْخُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإذًا لا اخْتِلافَ أنَّ إبْراهِيمَ أمَرَّ الشَفْرَةَ عَلى حَلْقِ ابْنِهِ فَلَمْ تَقْطَعْ.
ورُوِيَ أنَّ صَفِيحَةَ نُحاسٍ اعْتَرَضَتْهُ بِحَرْفِها، واللهُ أعْلَمُ كَيْفَ كانَ، فَقَدْ كَثَّرَ الناسُ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ بِما صِحَّتُهُ مَعْدُومَةٌ فاخْتَصَرْتُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿وَتَرَكْنا عَلَيْهِ في الآخِرِينَ﴾ ﴿سَلامٌ عَلى إبْراهِيمَ﴾. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ مَعْناهُ: بِمِثْلِ هَذا الفِعْلِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
ومِمّا يُسْتَغْرَبُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ قالَ: ذُبِحَ في المَقامِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن جَماعَةٍ لَمْ يُسَمِّها أنَّها قالَتْ: كانَ الأمْرُ وإراعَةُ الذَبْحِ والقِصَّةُ كُلُّها بِالشامِ، وقالَ الجُمْهُورُ: ذُبِحَ بِمِنى، وقالَ الشَعْبِيُّ: رَأيْتُ قَرْنَيْ كَبْشِ إبْراهِيمَ مُعَلَّقَةً في الكَعْبَةِ.
{"ayahs_start":103,"ayahs":["فَلَمَّاۤ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِینِ","وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ أَن یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ","قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤۚ إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَـٰۤؤُا۟ ٱلۡمُبِینُ","وَفَدَیۡنَـٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِیمࣲ","وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ","سَلَـٰمٌ عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ","كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"],"ayah":"إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق