الباحث القرآني

(p-٢٣٥)قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالا فَهي إلى الأذْقانِ فَهم مُقْمَحُونَ﴾ ﴿وَجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ قالَ مَكِّيٌّ: هي حَقِيقَةٌ في أحْوالِ الآخِرَةِ إذا دَخَلُوا النارَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "فَأغْشَيْناهُمْ"﴾ يُضْعِفُ هَذا القَوْلَ: لِأنَّ بَصَرَ الكافِرِ يَوْمَ القِيامَةِ إنَّما هو حَدِيدٌ، يَرى قُبْحَ حالِهِ. وقالَ الضِحاكُ: مَعْناهُ: مَنَعْناهم مِنَ النَفَقَةِ في سَبِيلِ اللهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩]. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ إسْحَقَ: هي اسْتِعارَةٌ لِحالِ الكَفَرَةِ الَّذِينَ أرادُوا مُحَمَّدًا ﷺ بِسُوءٍ، فَجَعَلَ اللهُ تَعالى هَذا مِثالًا لَهم في كَفِّ أذاهم عنهُ حِينَ بَيَّتُوهُ. قالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ حِينَ أرادَ أبُو جَهْلٍ ضَرْبَهُ بِالحَجَرِ العَظِيمِ فَمَنَعَهُ اللهُ مِنهُ، وفي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَواطِنِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ مُسْتَعارَةُ المَعْنى مِن مَنعِ اللهِ تَعالى إيّاهم وحَوْلِهِ بَيْنَهم وبَيْنَهُ. وهَذا أرْجَحُ الأقْوالِ؛ لِأنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِما سَبَقَ لَهم في الأزَلِ. عَقَّبَ ذَلِكَ بِأنْ جَعَلَ لَهم مِنَ المَنعِ وإحاطَةِ الشَقاوَةِ ما حالُهم مَعَهُ حالُ المَغْلُوبِينَ. و"الغِلُّ" ما أحاطَ بِالعُنُقِ عَلى مَعْنى التَضْيِيقِ والتَثْبِيتِ والتَعْذِيبِ والأسْرِ، ومَعَ العُنُقِ اليَدانِ أوِ اليَدُ الواحِدَةُ، هَذا مَعْنى التَغْلِيلِ، وقَوْلُهُ: "فَهِيَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى الأغْلالِ، أيْ: هي عَرِيضَةٌ تَبْلُغُ بِحَرْفِها الأذْقانَ، والذَقْنُ مُجْتَمَعُ اللِحْيَيْنِ، فَيُضْطَرُّ المَغْلُولُ إلى رَفْعِ وجْهِهِ نَحْوَ السَماءِ، وذَلِكَ هو الإقْماحُ، وهو نَحْوُ الإقْناعِ في الهَيْئَةِ، ونَحْوَهُ ما يَفْعَلُهُ الإنْسانُ والحَيَوانُ عِنْدَ شُرْبِ الماءِ البارِدِ وعِنْدَ المُلُوحاتِ والحُمُوضَةِ القَوِيَّةِ ونَحْوِهِ. ويَحْتَمِلُ - وهو قَوْلُ الطَبَرِيِّ - أنْ تَعُودَ "هِيَ" عَلى الأيْدِي - وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَها ذِكْرٌ - لِوُضُوحِ مَكانِها مِنَ المَعْنى، وذَلِكَ أنَّ الغِلَّ إنَّما يَكُونُ في العُنُقِ مَعَ اليَدَيْنِ. ورُوِيَ في (p-٢٣٦)مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِيٍّ: [إنّا جَعَلْنا في أيْمانِهِمْ]، وفي بَعْضِها [فِي أيْدِيهِمْ]، وقَدْ ذَكَرْنا مَعْنى الإقْماحِ. وقالَ قَتادَةُ: المُقْمَحُ الرافِعُ رَأسَهُ، وقالَ أيْضًا: ﴿ "مُقْمَحُونَ"،﴾ مُغَلَّلُونَ عن كُلِّ خَيْرٍ، وأرى عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ الناسَ الإقْماحَ، فَجَعَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ لِحْيَيْهِ وألْصَقَها ورَفَعَ رَأْسَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "سَدًّا" بِرَفْعِ السِينِ فِيهِما. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وطَلْحَةُ، وابْنُ وثّابٍ، وعِكْرِمَةُ، والنَخْعِيُّ، وابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِها فِيهِما. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: قالَ قَوْمٌ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، أيْ: حائِلًا يَسُدُّ طَرِيقَهُمْ، وقالَ عِكْرِمَةُ: ما كانَ مِمّا يَفْعَلُهُ البَشَرُ فَهو بِالضَمِّ، وما كانَ خِلْقَةً فَهو بِالفَتْحِ، و"السَدُّ" ما سَدَّ وحالَ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ في صِفَةِ سَحابٍ: "طَلَعَ سَدٌّ مَعَ انْتِشارِ الطِفْلِ"، أيْ: سَحابٌ سَدَّ الأُفُقَ، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: "جَرادٌ سَدٌّ"، ومَعْنى الآيَةِ أنَّ طَرِيقَ الهُدى سُدَّ دُونَهم. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "فَأغْشَيْناهُمْ"﴾ مَنقُوطَةً، أيْ: جَعَلْنا عَلى أعْيُنِهِمْ غِشاوَةً. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ يَعْمُرَ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والنَخْعِيُّ، وابْنُ سِيرِينَ بِالعَيْنِ مُهْمَلَةً، ورُوِيَتْ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وهي مِنَ العَشاءِ أيْ: أضْعَفْنا أبْصارَهُمْ (p-٢٣٧)والمَعْنى: فَهم لا يُبْصِرُونَ رُشْدًا ولا هُدًى. وقَرَأ يَزِيدُ اليَزِيدِيُّ: "فَأغْشَيْتُهُمْ" بِياءٍ دُونَ ألْفٍ وبِالغَيْنِ مَنقُوطَةً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب