الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أعْيُنِهِمْ فاسْتَبَقُوا الصِراطَ فَأنّى يُبْصِرُونَ﴾ ﴿وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهم عَلى مَكانَتِهِمْ فَما اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ولا يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ في الخَلْقِ أفَلا يَعْقِلُونَ﴾ ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ إنْ هو إلا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ ﴿لِيُنْذِرَ مَن كانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ عَلى الكافِرِينَ﴾ الضَمِيرُ في "أعْيُنِهِمْ" مُرادٌ بِهِ كُفّارُ قُرَيْشٍ، ومَعْنى الآيَةِ يُبَيِّنُ أنَّهم في قَبْضَةِ القُدْرَةِ وبُرُوجِ العَذابِ إنْ شاءَهُ اللهُ لَهُمْ، وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: أرادَ الأعْيُنَ حَقِيقَةً، والمَعْنى: (p-٢٦٢)لَأعْمَيْناهم فَلا يَرَوْنَ كَيْفَ يَمْشُونَ، ويُؤَيِّدُ هَذا مُجانَسَةُ المَسْخِ الحَقِيقِيِّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أرادَ أعْيُنَ البَصائِرِ، والمَعْنى: ولَوْ شِئْنا لَخَتَمْنا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فَلَمْ يَهْتَدِ مِنهم أحَدٌ. و"الطَمْسُ" إذْهابُ الآثارِ مِنَ المَشْيِ والهَيْئاتِ حَتّى كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ، أيْ: جَعَلْنا جُلُودَ وُجُوهِهِمْ مُتَّصِلَةً حَتّى كَأنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِيها عَيْنٌ قَطُّ. وقَوْلُهُ: ﴿فاسْتَبَقُوا الصِراطَ﴾ مَعْناهُ: عَلى الفَرْضِ، والتَقْدِيرِ: فَإنَّهُ ولَوْ شِئْنا لَأعْمَيْناهم فاحْسُبْ أو قَدِّرْ أنَّهم يَسْتَبِقُونَ الصِراطَ، أيِ: الطَرِيقَ، فَأنّى لَهم بِالإبْصارِ وقَدْ أعْمَيْناهُمْ؟ و"أنّى" لَفْظَةُ اسْتِفْهامٍ فِيهِ مُبالَغَةٌ، وقَدَّرَهُ سِيبَوَيْهِ، كَيْفَ؟ ومِن أيْنَ؟ و"مَسَخْناهُمْ" تَقْدِيرُهُ: تَبْدِيلُ خِلْقَتِهِمْ لِتَصِيرَ كالقِرَدَةِ والخَنازِيرِ ونَحْوٍ مِمّا تَقَدَّمَ في بَنِي إسْرائِيلَ وغَيْرِهِمْ، وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: لَجَعَلْناهم مُقْعَدِينَ مَبْطُولِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ تَصَرُّفًا، وقالَ ابْنُ سَلامٍ: هَذا التَوَعُّدُ كُلُّهُ يَوْمَ القِيامَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "مَكانَتِهِمْ"﴾ بِالإفْرادِ، بِمَعْنى المَكانِ، كَما يُقالُ دارٌ ودارَةٌ، وقَرَأ عاصِمٌ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ [مَكاناتِهِمْ] جَمْعًا، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وابْنِ أبِي إسْحَقَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مُضِيًّا" بِضَمِّ المِيمِ، وفَتَحَها أبُو حَيْوَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى دَلِيلًا في تَنْكِيسِهِ المُعَمِّرِينَ، وأنَّ ذَلِكَ ما يَفْعَلُهُ إلّا اللهُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "نُنَكِّسْهُ"﴾ بِفَتْحِ النُونِ الأولى وسُكُونِ الثانِيَةِ وضَمِّ الكافِ خَفِيفَةً، وقَرَأ عاصِمٌ - بِخِلافٍ عنهُ - وحَمْزَةُ بِضَمِّ الأُولى وفَتْحِ الثانِيَةِ وشَدِّ الكافِ المَكْسُورَةِ مُشَدَّدَةً عَلى المُبالَغَةِ، وأنْكَرَها أبُو عَمْرٍو عَلى الأعْمَشِ. ومَعْنى الآيَةِ: نُحَوِّلُ خَلْقَهُ مِنَ القُوَّةِ إلى الضَعْفِ، ومِنَ الفَهْمِ إلى البَلَهِ، ونَحْوُ ذَلِكَ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو - في رِوايَةِ عَبّاسٍ -: [تَعْقِلُونَ] بِالتاءِ، عَلى مَعْنى: قُلْ لَهُمْ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ عَلى ذِكْرِ الغائِبِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن حالِ نَبِيِّهِ ﷺ ورَدَّ قَوْلَ مَن قالَ مِنَ الكَفَرَةِ: إنَّهُ شاعِرٌ، وإنَّ القُرْآنَ شِعْرٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ﴾، وكَذَلِكَ كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لا يَقُولُ الشِعْرَ ولا يَرْوِيهِ ولا يَزِنُهُ، وكانَ إذا حاوَلَ إنْشادَ بَيْتٍ قَدِيمٍ مُتَمَثِّلًا كَسَرَ وزْنَهُ، وإنَّما كانَ يُحْرِزُ المَعْنى فَقَطْ وأنْشَدَ يَوْمًا بَيْتَ طُرْفَةَ: ؎ سَتُبْدِي لَكَ الأيّامُ ما كُنْتَ جاهِلًا ∗∗∗ ويَأْتِيكَ مَن لَمْ تُزَوِّدْ بِالأخْبارِ (p-٢٦٣)وَأنْشَدَ يَوْمًا - وقَدْ قِيلَ لَهُ: مَن أشْعَرُ الناسِ؟ - فَقالَ: الَّذِي يَقُولُ: ؎ ألَمْ تَرَيانِي كُلَّما جِئْتُ طارِقًا ∗∗∗ ∗∗∗ وُجِدَتْ بِها وإنْ لَمْ تَطَيَّبْ طِيبًا وأنْشَدَ يَوْمًا: ؎ أتُجْعَلُ نَهْبِي ونَهْبَ العَبِيـ ∗∗∗ ∗∗∗ دِ بَيْنَ الأقْرَعِ وعُيَيْنَةَ وقَدْ كانَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ رُبَّما أنْشَدَ البَيْتَ المُسْتَقِيمَ في النادِرِ، ورُوِيَ «أنَّهُ أنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ رَواحَةَ: ؎ يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عن فِراشِهِ ∗∗∗ ∗∗∗ إذا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضاجِعُ » وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: «أنْشَدَ النَبِيُّ عَلَيْهِ السَلامُ: ؎ كَفى بِالإسْلامِ والشَيْبِ لِلْمَرْءِ ناهِيًا فَقالَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُما: نَشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ، إنَّما قالَ الشاعِرُ: ؎ كَفى الشَيْبُ والإسْلامُ لِلْمَرْءِ ناهِيًا » رَواهُ الثَعْلَبِيُّ: وإصابَتُهُ الوَزْنَ أحْيانًا لا يُوجِبُ أنَّهُ تَعَلَّمَ الشِعْرَ، ورُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أتى في نَثْرِ كَلامِهِ أحْيانًا ما يَدْخُلُ في وزْنٍ، كَقَوْلِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: ؎ أنا النَبِيُّ لا كَذِبَ ∗∗∗ ∗∗∗ أنا ابْنُ عَبْدِ المَطْلَبِ » (p-٢٦٤)كَذَلِكَ يَأْتِي في آياتِ القُرْآنِ وفي كُلِّ كَلامٍ، ولَيْسَ كُلُّهُ بِشِعْرٍ ولا في مَعْناهُ. وهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي - عِنْدِي - غَضاضَةً عَلى الشِعْرِ ولا بُدَّ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ «قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها: كانَ الشِعْرُ أبْغَضَ الحَدِيثِ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وكانَ يَتَمَثَّلُ بِشِعْرِ أخِي قَيْسٍ طُرْفَةَ فَيَعْكِسُهُ، فَقالَ لَهُ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَيْسَ هَكَذا، فَقالَ: "ما أنا بِشاعِرٍ وما يَنْبَغِي لِي"،» وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الشِعْرَ لا غَضَّ عَلَيْهِ، وإنَّما مَنَعَهُ مِنَ التَحَلِّي بِهَذِهِ الحِلْيَةِ الرَفِيعَةِ لِيَجِيءَ القُرْآنُ مِن قَبْلِهِ أغْرَبُ، فَإنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ إدْراكُ الشِعْرِ لَقِيلَ في القُرْآنِ: إنَّ هَذا مِن تِلْكَ القُوَّةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ الأمْرُ عِنْدِي كَذَلِكَ، وقَدْ كانَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ مِنَ الفَصاحَةِ والبَيانِ في النَثْرِ في الرُتْبَةِ العُلْيا، ولَكِنَّ كَلامَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى يَبِينُ بِإعْجازِهِ، ويَبْرُزُ بِرَصْفِهِ، ويُخْرِجُهُ إحاطَةُ عِلْمِ اللهِ مِن كُلِّ كَلامٍ، وإنَّما مَنَعَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ مِنَ الشِعْرِ تَرْفِيعًا لَهُ عَمّا في قَوْلِ الشُعَراءِ مِنَ التَخَيُّلِ وتَزْوِيقِ الكَلامِ، وأمّا القُرْآنُ فَهو ذِكْرُ الِحَقائِقِ والبَراهِينِ، فَما هو بِقَوْلِ شاعِرٍ، وهَكَذا كانَ أُسْلُوبُ كَلامِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ؛ لِأنَّهُ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوى، والشِعْرُ نازِلُ الرُتْبَةِ عن هَذا كُلِّهِ. والضَمِيرُ في ﴿ "عَلَّمْناهُ"﴾ عائِدٌ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ قَوْلًا واحِدًا، والضَمِيرُ في "لَهُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ، أو يَعُودَ عَلى القُرْآنِ الكَرِيمِ، وإنْ كانَ لَمْ يُذْكَرْ لِدَلالَةِ المُجاوَرَةِ عَلَيْهِ، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إنْ هو إلا ذِكْرٌ وقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾. (p-٢٦٥)وَقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "لِتُنْذِرَ" بِالتاءِ عَلى مُخاطَبَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقَرَأ الباقُونَ بِالياءِ، أيْ: لِيُنْذِرَ القُرْآنُ، أو لِيُنْذِرَ مُحَمَّدٌ ﷺ، واللامُ مُتَعَلِّقَةٌ بـِ"مُبِينٌ"، وقَرَأ مُحَمَّدٌ اليَمانِيُّ: [لِيُنْذَرَ] عَلى الفِعْلِ المَجْهُولِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: ولَوْ قُرِئَ بِفَتْحِ الياءِ والذالِ أيْ: لِيَتَحَفَّظَ ويَأْخُذَ بِحَظِّهِ - لَكانَ جائِزًا، وحَكاها أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ عن مُحَمَّدٍ اليَمانِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن كانَ حَيًّا﴾ أيْ: حَيَّ القَلْبِ والبَصِيرَةِ، ولَمْ يَكُنْ مَيِّتًا لِكُفْرِهِ، وهَذِهِ اسْتِعارَةٌ، قالَ الضَحّاكُ: ﴿مَن كانَ حَيًّا﴾ مَعْناهُ: عاقِلًا، ﴿وَيَحِقَّ القَوْلُ﴾ مَعْناهُ: يَتَحَتَّمُ العَذابُ ويَجِبُ الخُلُودُ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ﴾ [الزمر: ٧١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب