الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم أنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللهُ أطْعَمَهُ إنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿ما يَنْظُرُونَ إلا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهم وهم يَخِصِّمُونَ﴾ ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لَهُمْ" لِقُرَيْشٍ. وسَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الكُفّارَ لَمّا أسْلَمَ حَواشِيهِمْ مِنَ المَوالِي وغَيْرِهِمْ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ، قَطَعُوا عنهم نَفَقاتِهِمْ وجَمِيعَ صِلاتِهِمْ، وكانَ الأمْرُ بِمَكَّةَ أوَّلًا فِيهِ بَعْضُ الِاتِّصالِ في وقْتِ نُزُولِ آياتِ المُوادَعَةِ، فَنَدَبَ أُولَئِكَ المُؤْمِنُونَ قَرابَتَهم مِنَ الكُفّارِ أنْ يَصِلُوهُمْ، وأنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ مِمّا رَزَقَهُمُ اللهُ، فَقالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللهُ أطْعَمَهُ﴾. قالَ الرُمّانِيُّ: ونَسُوا ما يَجِبُ مِنَ التَعاطُفِ وتَآلُفِ الجِنْسِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: سَبَبُها أنَّ قُرَيْشًا شَحَّتْ - بِسَبَبِ أزْمَةٍ - عَلى المَساكِينِ جَمِيعًا مِن مُؤْمِنٍ وغَيْرِهِ، فَنَدَبَهُمُ النَبِيُّ ﷺ إلى النَفَقَةِ عَلى المَساكِينِ، فَقالُوا هَذا القَوْلَ. وقَوْلُهم يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ مِنَ التَأْوِيلِ: أحَدُهُما يَخْرُجُ عَلى اخْتِياراتٍ لِجُهّالِ العَرَبِ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا كانَ يَرْعى إبِلَهُ، فَجَعَلَ السِمانَ في الخِصْبِ، والمَهازِيلَ في المَكانِ الجَدْبِ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ فَقالَ: أُكْرِمُ ما أكْرَمَ اللهُ وأُهِينُ ما أهانَ اللهُ، فَيَخْرُجُ قَوْلُ قُرَيْشٍ عَلى هَذا المَعْنى، كَأنَّهم رَأوُا الإمْساكَ عَمَّنْ أمْسَكَ اللهُ عنهُ رِزْقَهُ؛ ومِن أمْثالِهِمْ: (p-٢٥٣)"كُنْ مَعَ اللهِ عَلى المُدْبِرِ". والتَأْوِيلُ الثانِي أنْ يَكُونَ كَلامُهم بِمَعْنى الِاسْتِهْزاءِ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ﷺ: إنَّ ثَمَّ إلَهًا هو الرَزّاقُ، فَكَأنَّهم قالُوا: لِمَ لا يَرْزُقُهم إلَهُكَ الَّذِي تَزْعُمُ؟ أيْ: نَحْنُ لا نُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ هَذا الإلَهُ الَّذِي زَعَمْتَ أطْعَمَهُ. وهَذا كَما يَدَّعِي الإنْسانُ أنَّهُ غَنِيٌّ ثُمَّ يَحْتاجُ إلى مَعُونَتِكَ في مالٍ فَتَقُولُ لَهُ - عَلى جِهَةِ الِاحْتِجاجِ والهَزْءِ بِهِ -: أتَطْلُبُ مَعُونَتِي وأنْتَ غَنِيٌّ؟ أيْ: عَلى قَوْلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ الكَفَرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أيْ: في أمْرِكم لَنا بِنَفَقَةِ أمْوالِنا، وفي غَيْرِ ذَلِكَ مِن دِينِكُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ اللهِ تَعالى لِلْكَفَرَةِ، اسْتَأْنَفَ زَجْرَهم بِهَذا. ثُمَّ حَكى عنهم - عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ عَلَيْهِمْ - قَوْلَهُمْ: ﴿مَتى هَذا الوَعْدُ﴾ أيْ مَتى يَوْمُ القِيامَةِ الَّذِي تَزْعُمُ، وقِيلَ: أرادُوا: مَتى هَذا العَذابُ الَّذِي تُهَدِّدُنا بِهِ؟ وسَمَّوْا ذَلِكَ وعَدا مِن حَيْثُ تُفِيدُ قَرائِنُ الكَلامِ أنَّهُ في شَرٍّ، والوَعْدُ مَتى ورَدَ مُطْلَقًا فَهو في خَيْرٍ، وإذا قُيِّدَ بِقَرِينَةِ الشَرِّ اسْتُعْمِلَ فِيهِ، والوَعِيدُ دائِمًا هو في الشَرِّ. و"يَنْظُرُونَ" مَعْناهُ: يَنْتَظِرُونَ، و"ما" نافِيَةٌ، وهَذِهِ الصَيْحَةُ هي صَيْحَةُ القِيامَةِ والنَفْخَةُ الأُولى في الصُورِ، رَواهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وأبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهم عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وفي حَدِيثٍ أنَّ بَعْدَها نَفْخَةَ الصَعْقِ، ثُمَّ نَفْخَةَ الحَشْرِ، وهي الَّتِي تَدُومُ فَما لَها مِن فَواقٍ. (p-٢٥٤)وَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، والأعْرَجُ، وشِبْلٌ، وابْنُ قُسْطَنْطِينَ المَكِّيُّ: [يَخَصِّمُونَ] بِفَتْحِ الياءِ والخاءِ وشَدِّ الصادِ المَكْسُورَةِ، وأصِلُها يَخْتَصِمُونَ، نَقِلَتْ حَرَكَةُ التاءِ إلى الخاءِ وأُدْغِمَتِ التاءُ الساكِنَةُ في الصادِ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو أيْضًا بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الخاءِ وشَدِّ الصادِ المَكْسُورَةِ، وفي هَذِهِ القِراءَةِ جَمَعَ بَيْنَ ساكِنِينَ ولَكِنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ مَحْضٍ، ووَجَّهَها أبُو عَلِيٍّ، وأصْلُها: يَخْتَصِمُونَ، حُذِفَتْ حَرَكَةُ التاءِ دُونَ نَقْلٍ وأُدْغِمَتْ في الصادِ. وقَرَأ عاصِمٌ، والكِسائِيُّ، وابْنُ عامِرٍ، ونافِعٌ أيْضًا، والحَسَنُ، وأبُو عَمْرٍو - بِخِلافٍ عنهُ - بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الخاءِ وشَدِّ الصادِ المَكْسُورَةِ، أصْلُها: يَخْتَصِمُونَ، أُعِلَّتْ كالَّتِي قَبْلَها ثُمَّ كُسِرَتْ لِلِالتِقاءِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ الياءِ والخاءِ وشَدِّ الصادِ المَكْسُورَةِ كالَّتِي قَبْلَها ثُمَّ أُتْبِعَتْ كَسْرَةُ الخاءِ بِكَسْرَةِ الياءِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "يَخْتَصِمُونَ". ومَعْنى هَذِهِ القِراءاتِ كُلِّها أنَّهم يَتَحاوَرُونَ ويَتَراجَعُونَ الأقْوالَ بَيْنَهم ويَتَدافَعُونَ في شُؤُونِهِمْ، وقَرَأ حَمْزَةُ: "يَخْصِمُونَ"، وهَذِهِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما ما في القِراءاتِ قَبْلَها، أيْ: يَخْصِمُ بَعْضُهم بَعْضًا، والثانِي أنَّهم يَخْصِمُونَ أهْلَ الحَقِّ في زَعْمِهِمْ، كَأنَّهُ قالَ: تَأْخُذُهُمُ الصَيْحَةُ وهم يَظُنُّونَ بِأنْفُسِهِمْ أنَّهم قَدْ خَصَمُوا أو غَلَبُوا؛ لِأنَّكَ تَقُولُ: خاصَمْتُ فُلانًا فَخَصَمْتُهُ، إذا غَلَبْتَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ عِبارَةٌ عن إعْجالِ الحال، و"التَوْصِيَةُ" مَصْدَرٌ مِن: وصّى، وقَوْلُهُ: ﴿وَلا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلاتٍ: أحُدُّها: ولا يَرْجِعُ أحَدٌ إلى مَنزِلِهِ وأهْلِهِ لِإعْجالِ الأمْرِ، بَلْ تُقْبَضُ نَفْسُهُ حَيْثُما أخَذَتْهُ الصَيْحَةُ، والثانِي مَعْناهُ: ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ قَوْلًا، وهَذا أبْلَغُ في الِاسْتِعْجالِ، وخَصَّ الأهْلَ بِالذِكْرِ لِأنَّ القَوْلَ مَعَهم في ذَلِكَ الوَقْتِ أهَمُّ عَلى الإنْسانِ مِنَ الأجْنَبِيَّيْنِ وأوكَدُ في نُفُوسِ البَشَرِ، والثالِثُ تَقْدِيرُهُ: ولا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أبَدًا، فَخَرَجَ هَذا عن مَعْنى وصْفِ الِاسْتِعْجالِ إلى مَعْنى ذِكْرِ انْقِطاعِهِمْ وانْبِتارِهِمْ مِن دُنْياهم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَرْجِعُونَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الجِيمِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الجِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب