الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَآيَةٌ لَهم أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهم في الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ ﴿وَخَلَقْنا لَهم مِن مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ﴾ ﴿وَإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهم فَلا صَرِيخَ لَهم ولا هم يُنْقَذُونَ﴾ ﴿إلا رَحْمَةً مِنّا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أيْدِيكم وما خَلْفَكم لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ﴿وَما تَأْتِيهِمْ مِن آيَةٍ مِن آياتِ رَبِّهِمْ إلا كانُوا عنها مُعْرِضِينَ﴾
"وَآيَةٌ" مَعْناهُ: عَلامَةٌ ودَلِيلٌ، ورَفْعُها بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُها في قَوْلِهِ: "لَهُمْ"، و"أنّا" بَدَلٌ مِن "آيَةٌ"، وفِيهِ نَظَرٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "أنْ" مُفَسِّرَةً لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ. و"الحَمْلُ": مَنعُ الشَيْءِ أنْ يَذْهَبَ سُفْلًا، وذَكَرَ الذُرِّيَّةَ لِضَعْفِهِمْ عَنِ السَفَرِ فالنِعْمَةُ فِيهِمْ أمْكَنُ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، والأعْمَشُ: "ذُرِّيّاتِهِمْ" بِالجَمْعِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالإفْرادِ، وهي قِراءَةُ طَلْحَةَ، وعِيسى، والضَمِيرُ المُتَّصِلُ بِالذُرِّيّاتِ هو ضَمِيرُ الجِنْسِ، كَأنَّهُ قالَ: ذُرِّيّاتُ جِنْسِهِمْ أو نَوْعِهِمْ، هَذا أصَحُّ ما يَتَّجِهُ في هَذا، وخَلَطَ بَعْضُ الناسِ في هَذا حَتّى قالُوا. الذُرِّيَّةُ تَقَعُ عَلى الآباءِ، وهَذا لا يُعْرَفُ لُغَةً.
وأمّا مَعْنى الآيَةِ؛ فَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أحَدُهُما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وجَماعَةٌ، وهو أنْ يُرِيدَ بِالذُرِّيّاتِ المَحْمُولِينَ أصْحابَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ في السَفِينَةِ، ويُرِيدُ بِقَوْلِهِ: ﴿ "مِن مِثْلِهِ"﴾ السُفُنَ المَوْجُودَةَ في جِنْسِ بَنِي آدَمَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وإيّاها ٠ (p-٢٥١)أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾، والتَأْوِيلُ الثانِي قالَهُ مُجاهِدٌ، والسُدِّيُّ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، هو أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ الآيَةُ، السُفُنَ المَوْجُودَةَ في بَنِي آدَمَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ويُرِيدُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَخَلَقْنا لَهُمْ﴾ الآيَةُ، الإبِلَ وسائِرَ ما يُرْكَبُ، فَتَكُونُ المُماثَلَةُ في أنَّهُ مَرْكُوبٌ مُبَلِّغٌ إلى الأقْطارِ فَقَطْ، ويَعُودُ قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾ عَلى السُفُنِ المَوْجُودَةِ في الناسِ، وأمّا مَن خَلَطَ القَوْلَيْنِ فَجَعَلَ الذُرِّيَّةَ في الفَلَكِ في قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَلامُ في سَفِينَتِهِ، وجَعَلَ ﴿ "مِن مِثْلِهِ"﴾ في الإبِلِ، فَإنَّ هَذا نَظَرٌ فاسِدٌ يَقْطَعُ بِهِ قَوْلُهُ: ﴿وَإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾، فَتَأمَّلْهُ.
و"الفُلْكُ" جَمْعٌ، والإفْرادُ عَلى وزْنِهِ، ولَكِنْ لَيْسَتْ حَرَكاتُ الجَمْعِ حَرَكاتُ الإفْرادِ. و"المَشْحُونُ": المُوقَرُ، و"مِن" في قَوْلِهِ: "مِن مِثْلِهِ" يَتَّجِهُ عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، وعَلى التَأْوِيلِ الآخَرِ أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ، فانْظُرْهُ، ويُقالُ: الإبِلُ مَراكِبُ البَرِّ.
و"الصَرِيخُ" هُنا بِناءُ الفاعِلِ، بِمَعْنى: المُصْرِخِ، وذَلِكَ أنَّكَ تَقُولُ: صارِخٌ بِمَعْنى مُسْتَغِيثٌ، ومُصْرِخٌ بِمَعْنى مُغِيثٌ، ويَجِيءُ صَرِيخٌ مَرَّةً بِمَعْنى هَذا ومَرَّةً بِمَعْنى هَذا؛ لِأنَّ فَعِيلًا مِن أبْنِيَةِ اسْمِ الفاعِلِ، فَمَرَّةً: يَجِيءُ مِن صَرَخَ إذا اسْتَغاثَ، ومَرَّةً: يَجِيءُ مِن أصْرَخَ إذا أغاثَ.
وقَوْلُهُ: ﴿إلا رَحْمَةً﴾ قالَ الكِسائِيُّ: نَصْبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ، كَأنَّهُ قالَ: إلّا أنْ نَرْحَمَهُمْ، وقالَ الزَجّاجُ: نَصَبَ رَحْمَةً عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، كَأنَّهُ قالَ: إلّا لِأجْلِ رَحْمَتِنا إيّاهم. وقَوْلُهُ: "مَتاعًا" عُطِفَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ "رَحْمَةً"،﴾ و"إلى حِينٍ" يُرِيدُ إلى آجالِهِمُ المَضْرُوبَةِ لَهم.
والكَلامُ تامٌّ في قَوْلِهِ: ﴿وَإنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنِ السائِرِينَ في البَحْرِ، ناجِينَ كانُوا أو مُغْرَقِينَ، فَهم بِهَذِهِ لا نَجاةَ لَهم إلّا بِرَحْمَةِ اللهِ ولَيْسَ قَوْلُهُ: ﴿فَلا صَرِيخَ لَهُمْ﴾ مَرْبُوطًا بِالمُغْرَقِينَ، وقَدْ يَصِحُّ رَبْطُهُ بِهِ، والأوَّلُ أحْسَنُ فَتَأمَّلْ.
ثُمَّ ابْتَدَأ الإخْبارَ عن عُتُوِّ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ﴾ الآيَةُ. و"ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ" قالَ مُقاتِلٌ، وقَتادَةُ: هو عَذابُ الأُمَمِ الَّذِي قَدْ سَبَقَهم في الزَمَنِ، و"ما خَلْفَهُمْ" هو عَذابُ الآخِرَةِ الَّتِي تَأْتِي مِن بَعْدِهِمْ في الزَمَنِ، وهَذا هو النَظَرُ، وقالَ الحَسَنُ: خُوِّفُوا بِما مَضى مِن (p-٢٥٢)ذُنُوبِهِمْ وبِما يَأْتِي مِنها، وهَذا نَحْوُ الأوَّلِ في المَعْنى؛ لِأنَّ التَخْوِيفَ بِالذَنْبِ إنَّما هو مِن عِقابِهِ والمُجازاةِ عَلَيْهِ. "ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ" هو الآخِرَةُ، و"ماخَلْفَهُمْ" عَذابُ الأُمَمِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَجَعَلَ التَرْتِيبَ كَأنَّهم يَسِيرُونَ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ، ولَمْ يَعْتَبِرْ وُجُودَ الأشْياءِ في الزَمَنِ، وهَذا النَظَرُ يُكْرِهُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْراةِ﴾ [المائدة: ٤٦]، وإنَّما المُطَّرِدُ أنْ يُقاسَ ما بَيْنَ اليَدِ والخَلْفِ بِما يَسُوقُهُ الزَمَنُ، فَتَأمَّلْهُ. وجَوابُ "إذا" في هَذِهِ الآيَةِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: أعْرَضُوا، ويُفَسِّرُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إلا كانُوا عنها مُعْرِضِينَ﴾، و"الآياتُ" العَلاماتُ والدَلائِلُ.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["وَءَایَةࣱ لَّهُمۡ أَنَّا حَمَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُمۡ فِی ٱلۡفُلۡكِ ٱلۡمَشۡحُونِ","وَخَلَقۡنَا لَهُم مِّن مِّثۡلِهِۦ مَا یَرۡكَبُونَ","وَإِن نَّشَأۡ نُغۡرِقۡهُمۡ فَلَا صَرِیخَ لَهُمۡ وَلَا هُمۡ یُنقَذُونَ","إِلَّا رَحۡمَةࣰ مِّنَّا وَمَتَـٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ","وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّقُوا۟ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیكُمۡ وَمَا خَلۡفَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ","وَمَا تَأۡتِیهِم مِّنۡ ءَایَةࣲ مِّنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُوا۟ عَنۡهَا مُعۡرِضِینَ"],"ayah":"وَمَا تَأۡتِیهِم مِّنۡ ءَایَةࣲ مِّنۡ ءَایَـٰتِ رَبِّهِمۡ إِلَّا كَانُوا۟ عَنۡهَا مُعۡرِضِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











