الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ مِن السَماءِ وما كُنّا مُنْزِلِينَ﴾ ﴿إنْ كانَتْ إلا صَيْحَةً واحِدَةً فَإذا هم خامِدُونَ﴾ ﴿يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وَإنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾ هَذِهِ مُخاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ فِيها تَوَعُّدٌ لِقُرَيْشٍ، إذْ هَذا هو المُرَوِّعُ لَهم مِنَ المِثالِ أنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مِن عَذابِ اللهِ ما نَزَلَ بِقَوْمِ حَبِيبٍ النَجّارِ، فَنَفى عَزَّ وجَلَّ، أيْ أنَّهُ ما أنْزَلَ عَلى قَوْمِ هَذا الرَجُلِ جُنْدًا مِنَ السَماءِ، قالَ مُجاهِدٌ: أرادَ أنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ رَسُولًا ولا اسْتَعْتَبَهُمْ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أرادَ لَمْ يَحْتَجْ في تَعْذِيبِهِمْ إلى جُنْدٍ مِن جُنْدِ اللهِ كالحِجارَةِ والغَرَقِ والرِيحِ وغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ كانَتْ صَيْحَةٌ واحِدَةٌ؛ لِأنَّهم كانُوا أيْسَرَ وأهْوَنَ مِن ذَلِكَ، قالَ قَتادَةُ: واللهِ ما عاتَبَ اللهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ حَتّى أهْلَكَهم. واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما كُنّا مُنْزِلِينَ﴾، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: "ما" نافِيَةٌ، وهَذا يَجْرِي مَعَ التَأْوِيلِ الثانِي في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وَما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُنْدٍ﴾. وقالَتْ فِرْقَةٌ: "ما" عَطْفٌ عَلى "جُنْدٍ"، أيْ: "مِن جُنْدٍ ومِنَ الَّذِي كُنّا مُنْزِلِينَ عَلى الأُمَمِ مِثْلِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ". (p-٢٤٥)وَقَرَأ الجُمْهُورُ: "إلّا صَيْحَةً" بِالنَصْبِ عَلى خَبَرِ (كانَ)، أيْ: ما كانَ عَذابُهم إلّا صَيْحَةً واحِدَةً، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، ومُعاذُ بْنُ الحارِثِ: "إلّا صَيْحَةٌ واحِدَةٌ" بِالرَفْعِ، وضَعَّفَها أبُو حاتِمٍ، والوَجْهُ فِيها أنَّها لَيْسَتْ (كانَ) الَّتِي تَطْلُبُ الِاسْمَ والخَبَرَ، وإنَّما التَقْدِيرُ: ما وقَعَتْ أو حَدَثَتْ إلّا صَيْحَةٌ واحِدَةٌ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ الأسْوَدِ: "إلّا زَقْيَةً واحِدَةً" وهي الصَيْحَةُ مِنَ الدِيكِ ونَحْوِهِ مِنَ الطَيْرِ. (p-٢٤٦)وَ"خامِدُونَ": ساكِتُونَ مَوْتى لاطُّونَ بِالأرْضِ، شُبِّهُوا بِالرَمادِ الَّذِي خَمَدَتْ نارُهُ وطُفِئَتْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "يا حَسْرَةً"﴾ نِداءٌ لَها عَلى مَعْنى: هَذا وقْتُ حُضُورِكِ وظُهُورِكِ، هَذا تَقْدِيرُ نِداءِ مِثْلِ هَذا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وهو مَعْنى قَوِيمٌ في نَفْسِهِ، وهو مُنادى مَنكُورٌ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ. قالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: يا حَسْرَةَ العِبادِ عَلى أنْفُسِهِمْ، وذَكَرَ أنَّها في بَعْضِ القِراءاتِ كَذَلِكَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المَعْنى: يا ويْلًا لِلْعِبادِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَحّاكُ، وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، ومُجاهِدٌ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "يا حَسْرَةَ العِبادِ"، بِالإضافَةِ. وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ حَسَنٌ مَعَ قِراءَتِهِ، وتَأْوِيلُ الطَبَرِيِّ في ذَلِكَ القِراءَةَ الأولى لَيْسَ بِالبَيِّنِ، وإنَّما يَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ المَعْنى تَلَهُّفًا عَلى العِبادِ كانَ الحالُ يَقْتَضِيهِ، وطِباعُ كُلِّ بَشَرٍ تُوجِبُ عِنْدَ سَماعِهِ حالَهم وعَذابَهَمْ عَلى الكُفْرِ وتَضْيِيعَهم أمْرَ اللهِ تَعالى أنْ يُشْفِقَ ويَتَحَسَّرَ عَلى العِبادِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: المُرادُ ب العِبادِ الرُسُلُ الثَلاثَةُ، فَكَأنَّ هَذا التَحَسُّرَ هو مِنَ الكُفّارِ، حِينَ رَأوا عَذابَ اللهِ تَلَهَّفُوا عَلى ما فاتَهُمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ﴾ الآيَةُ، يَدْفَعُ هَذا التَأْوِيلَ. والحَسْرَةُ: التَلَهُّفاتُ الَّتِي تَتْرُكُ صاحِبَها حَسِيرًا، وقَرَأ الأعْرَجُ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وأبُو الزِنادِ: "يا حَسْرَهْ" بِالوَقْفِ عَلى الهاءِ، وذَلِكَ لِلْحِرْصِ عَلى بَيانِ مَعْنى التَحَسُّرِ وتَقْرِيرِهِ لِلنَّفْسِ، والنُطْقُ بِالهاءِ في مِثْلِ هَذا أبْلَغُ في التَشْفِيقِ وهَزِّ النَفْسِ، كَقَوْلِهِمْ: أوِّهِ ونَحْوِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ﴾ الآيَةُ، تَمْثِيلٌ لِفِعْلِ قُرَيْشٍ. (p-٢٤٧)ثُمَّ عَناهم بِقَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا﴾، و"كَمْ" هُنا خَبَرِيَّةٌ، و"أنَّهُمْ" بَدَلٌ مِنها، و"الرُؤْيَةُ" رُؤْيَةُ البَصَرِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "أولَمَ يَرَوْا مَن أهْلَكَنا"، وقَرَأ الجُمْهُورُ "أنَّهُمْ" بِفَتْحِ الألِفِ، وكَسَرَها الحَسَنُ البَصْرِيُّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لِما" بِتَخْفِيفِ المِيمِ، وذَلِكَ عَلى زِيادَةِ (ما) لِلتَّأْكِيدِ، والمَعْنى، "لِجَمِيعِ"، وشَدَّدَها الحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعاصِمٌ، قالُوا: هي مُنَزَّلَةٌ مَنزِلَةَ (إلّا)، وقِيلَ: المُرادُ: (لَمِمّا) حُذِفَتْ إحْداهُما، وفِيهِ ضَعْفٌ، وفي حَرْفِ أُبَيٍّ: [وَإنْ مِنهم إلّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ]، قالَ قَتادَةُ: مَحْشُورُونَ يَوْمَ القِيامَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب