الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَماواتِ والأرْضِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُدُورِ﴾ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ في الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ إلا مَقْتًا ولا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهم إلا خَسارًا﴾ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أرُونِي ماذا خَلَقُوا مِن الأرْضِ أمْ لَهم شِرْكٌ في السَماواتِ أمْ آتَيْناهم كِتابًا فَهم عَلى بَيِّنَتٍ مِنهُ بَلْ إنْ يَعِدُ الظالِمُونَ بَعْضُهم بَعْضًا إلا غُرُورًا﴾ ﴿إنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا ولَئِنْ زالَتا إنَّ أمْسَكَهُما مِن أحَدٍ مِن بَعْدِهِ إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ هَذا ابْتِداءُ تَذْكِيرٍ بِاللهِ تَعالى، ودَلائِلُ عَلى وحْدانِيَّتِهِ وصِفاتِهِ الَّتِي لا تَنْبَغِي الأُلُوهِيَّةُ إلّا مَعَها. و"الغَيْبُ" ما غابَ عَنِ البَشَرِ. و"ذاتُ الصُدُورِ" ما فِيها مِنَ المُعْتَقَداتِ والمَعانِي، ومِنهُ قَوْلُ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "ذُو بَطْنِ بِنْتٍ خارِجَةٍ "، ومِنهُ قَوْلُ (p-٢٢٦)العَرَبِ: "الذِئْبُ مَغْبُوطٌ بِذِي بَطْنِهِ"، أيْ بِالنَفْخِ الَّذِي فِيهِ، فَمَن رَآهُ يَظُنُّهُ سابِغًا قَرِيبَ عَهْدٍ بِأكْلٍ. و"خَلائِفَ" جَمْعُ خَلِيفَةٍ، كَسَفِينَةٍ وسَفائِنَ ومَدِينَةٍ ومَدائِنَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ وبالُ كُفْرِهِ وضَرَرُهُ، و"المَقْتُ" احْتِقارُكَ الإنْسانَ مِن أجْلِ مَعْصِيَتِهِ، أو بُغْضُهِ لِدِينِهِ الَّذِي يَأْتِيهِ، فَإنْ كانَ الِاحْتِقارُ تَعَسُّفًا مِنكَ فَلا يُسَمّى مَقْتًا، و"الخَسارُ" مَصْدَرٌ: مِن خَسِرَ يَخْسَرُ، أيْ: خَسِرُوا آخِرَتَهم ومَعادَهم بِأنْ صارُوا إلى النارِ والعَذابِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ﴾ الآيَةُ، احْتِجاجٌ عَلى الكَفّارِ في بُطْلانِ أمْرِ أصْنامِهِمْ، وقَّفَهُمُ النَبِيُّ ﷺ - بِأمْرِ رَبِّهِمْ عَلى حُجَّتِهِمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ أنَّها حَقٌّ، ثُمَّ وقَّفَهم - مَعَ اتِّضاحِ عَجْزِهِمْ عن خَلْقِ شَيْءٍ - عَلى السَمَواتِ، هَلْ لَهم فِيها شِرْكٌ؟ وظاهِرٌ بَعْدُ هَذا أيْضًا، ثُمَّ وقَّفَهم هَلْ عِنْدَهم كِتابٌ مِنَ اللهِ تَعالى يُبَيِّنُ لَهم فِيهِ ما قالُوهُ؟ أيْ: لَيْسَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أضْرَبَ بَعْدَ هَذا الجَحْدِ المُقَدَّرِ فَقالَ: إنَّما يَعِدُونَ أنْفُسَهم غُرُورًا. و"أرَأيْتُمْ" تَتَنَزَّلُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَنزِلَةَ "أخْبِرُونِي"، ولِذَلِكَ لا تَحْتاجُ إلى مَفْعُولَيْنِ، وأضافَ الشُرَكاءَ إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ هم جَعَلُوهم شُرَكاءَ لِلَّهِ، أيْ: لَيْسَ لِلْأصْنامِ شَرِكَةٌ بِوَجْهٍ إلّا بِقَوْلِكُمْ، فالواجِبُ إضافَتُها إلَيْكُمْ، و"تَدْعُونَ" مَعْناهُ: تَعْبُدُونَ. و"الرُؤْيَةُ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "أرُونِي"﴾ رُؤْيَةُ بَصَرٍ، و"الشِرْكُ": الشَرِكَةُ، مَصْدَرٌ أيْضًا، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: [بَيِّناتٍ] بِالجَمْعِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والأعْمَشُ، وابْنُ وثّابٍ، ونافِعٌ - بِخِلافٍ عنهُ -: "بَيِّنَةٍ" بِالإفْرادِ، والمُرادُ بِهِ الجَمْعُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِهِ الإفْرادَ. كَما تَقُولُ: أنا مِن هَذا الأمْرِ عَلى واضِحَةٍ، أو (p-٢٢٧)عَلى جَلِيَّةٍ. و"الغُرُورُ" الَّذِي كانُوا يَتَعاطَوْنَهُ قَوْلُهُمُ: الأصْنامُ تُقَرِّبُ مِنَ اللهِ زُلْفى، ونَحْوُهُ مِمّا يَغِيظُهم. ولَمّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى ما يُبَيِّنُ فَسادَ أمْرِ الأصْنامِ، ووَقَفَ عَلى الحُجَّةِ عَلى بُطْلانِها، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ عَظَمَتِهِ وقُدْرَتِهِ، لِيَتَبَيَّنَ الشَيْءُ بِضِدِّهِ، وتَتَأكَّدَ حَقارَةُ الأصْنامِ بِذِكْرِ اللهِ تَعالى، فَأخْبَرَ عن إمْساكِهِ السَمَواتِ والأرْضَ بِالقُدْرَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿أنْ تَزُولا﴾ مَعْناهُ: كَراهَةَ أنْ تَزُولا، ولِئَلّا تَزُولا، ومَعْنى الزَوالِ هُنا التَنَقُّلُ مِن مَكانِها، والسُقُوطُ مَن عُلُوِّها، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: أنْ تَزُولا عَنِ الدَوَرانِ، ويَظْهِرُ مِن قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ السَماءَ لا تَدُورُ وإنَّما تَجْرِي فِيها الكَواكِبُ، وذَلِكَ أنَّ الطَبَرَيَّ أسْنَدَ أنَّ جُنْدُبًا البَجَلِيَّ رَحَلَ إلى كَعْبِ الأحْبارِ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدِّثْنا ما حَدَّثَكَ، فَقالَ: حَدَّثَنِي أنَّ السَماءَ في قُطْبٍ كَقُطْبِ الرَحى، وهو عَمُودٌ عَلى مَنكِبِ مَلَكٍ، فَقالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَوَدِدْتُ أنَّكَ افْتَدَيْتَ رِحْلَتَكَ بِمِثْلِ راحِلَتِكَ ورَحْلِكَ، ما تَمَكَّنَتِ اليَهُودِيَّةُ في قَلْبِ عَبْدٍ فَكادَتْ أنْ تُفارِقَهُ، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ وكَفى بِها زَوالًا أنْ تَدُورَ، ولَوْ دارَتْ لَكانَتْ قَدْ زالَتْ. وقَوْلُهُ: ﴿وَلَئِنْ زالَتا﴾ قِيلَ: يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ طَيِّ السَماءِ ونَسْفِ الجِبالِ، فَكَأنَّهُ قالَ: ولَئِنْ جاءَ وقْتُ زَوالِهِما، وقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ التَوَهُّمِ والفَرْضِ، ولَئِنْ فَرَضْنا زَوالَهُما، وكَأنَّهُ قالَ: ولَوْ زالَتا، وقالَ بَعْضُهُمْ: "لَئِنْ" في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى "لَوْ"، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "وَلَوْ زالَتا". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "مِن بَعْدِهِ"﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: مِن بَعْدِ تَرْكِهِ الإمْساكَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: اتِّصافُهُ بِالحِلْمِ والغُفْرانِ في هَذِهِ الآيَةِ إنَّما هو إشارَةٌ إلى أنَّ السَماءَ كادَتْ تَزُولُ والأرْضَ كَذَلِكَ لِإشْراكِ الكَفَرَةِ، فَيُمْسِكُهُما اللهُ حِلْمًا مِنهُ عَنِ المُشْرِكِينَ، وتَرَبُّصًا لِيَغْفِرَ لِمَن آمَنُ مِنهُمْ، كَما قالَ: ﴿تَكادُ السَماواتُ يَتَفَطَّرْنَ﴾ [الشورى: ٥] الآيَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب