الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ ولا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عنهم مِن عَذابِها كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ ﴿وَهم يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلْ أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مَن نَصِيرٍ﴾ ﴿ "المُقامَةِ":﴾ الإقامَةُ، مِن: أقامَ، والمَقامَةُ - بِفَتْحِ المِيمِ -: القِيامُ، وهي مِن: قامَ، و"دارَ المُقامَةِ": الجَنَّةُ. و"النَصَبُ" تَعَبُ البَدَنِ، و"اللُغُوبُ" تَعَبُ النَفْسِ اللازِمُ مَن تَعِبِ البَدَنِ، وقالَ قَتادَةُ: اللُغُوبُ: الوَجَعُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ "لُغُوبٌ" بِضَمِّ اللامِ، وقَرَأ (p-٢٢٣)عَلِيُّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِي اللهُ عنهُ، والسُلَمِيُّ: "لَغُوبٌ" بِفَتْحِ اللامِ، أيْ: شَيْءٌ يُعْيِينا، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا كالوُلُوغِ والوُضُوءِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن حالِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعادِلًا بِذَلِكَ الإخْبارَ قَبْلُ عَنِ الَّذِينَ اصْطَفى، وهَذا يُؤَيِّدُ تَأْوِيلَ مَن قالَ: إنَّ الثَلاثَةَ الأصْنافَ هي كُلُّها في الجَنَّةِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الكافِرِينَ إنَّما جاءَ هاهُنا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُقْضى عَلَيْهِمْ﴾ مَعْناهُ: لا يُجْهَزُ؛ لِأنَّهم لَوْ ماتُوا لَبَطَلَتْ حَواسُّهم فاسْتَراحُوا. وقَرَأ الحَسَنُ البَصْرِيُّ، والثَقَفِيُّ: "فَيَمُوتُونَ" ووَجْهُها العَطْفُ عَلى "يُقْضى"، وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يُخَفَّفُ عنهم مِن عَذابِها﴾ لا يُعارِضُهُ قَوْلُهُ: ﴿كُلَّما خَبَتْ زِدْناهم سَعِيرًا﴾ [الإسراء: ٩٧] ؛ لِأنَّ المَعْنى: لا يُخَفَّفُ عنهم نَوْعُ عَذابِهِمْ، والنَوْعُ في نَفْسِهِ يَدْخُلُهُ أنْ تَخْبُوَ أو تُسَعَّرَ، ونَحْوُ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَجْزِي" بَنُونٍ، "كُلَّ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ -: [يُجْزى] بِياءٍ مَضْمُومَةٍ عَلى الفِعْلِ المَجْهُولِ [كُلَّ] رَفَعا. و"يَصْطَرِخُونَ" يَفْتَعِلُونَ، مِنَ الصُراخِ، أصْلُهُ "يَصْتَرِخُونَ" فَأُبْدِلَتِ التاءُ طاءً لِقُرْبِ مَخْرَجِ الطاءِ مِنَ الصادِ، وفي الكَلامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرِهُ: فَيُقالُ لَهُمْ: ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ ؟ عَلى جِهَةِ التَوْقِيفِ والتَوْبِيخِ. و"ما" في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ما يَتَذَكَّرُ﴾ ظَرْفِيَّةٌ، واخْتَلَفَ الناسُ في المُدَّةِ الَّتِي هي لِلتَّذْكِيرِ، فَقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "البُلُوغُ"، يُرِيدُ أنَّهُ (p-٢٢٤)أوَّلُ حالِ التَذَكُّرِ، وقالَ قَتادَةُ: ثَمانِ عَشْرَةَ سَنَةً، وقالَتْ فِرْقَةٌ: عِشْرُونَ سَنَةً، وحَكى الزَجّاجُ: سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أرْبَعُونَ سَنَةً، وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ ورُوِيَتْ فِيهِ آثارٌ، ورُوِيَ أنَّ العَبْدَ إذا بَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ولَمْ يَتُبْ مَسْحَ الشَيْطانُ عَلى وجْهِهِ، وقالَ: وجْهٌ لا يُفْلِحُ، وقالَ مَسْرُوقُ بْنُ الأجْدَعِ: مَن بَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً فَلْيَأْخُذْ حِذْرَهُ مِنَ اللهِ، ومِنهُ قَوْلُ القائِلِ: ؎ إذا المَرْءُ وفّى الأرْبَعِينَ ولَمْ يَكُنْ ∗∗∗ لَهُ دُونَ ما يَأْتِي حَياءٌ ولا سَتْرُ ؎ فَدَعْهُ ولا تَنْفِسْ عَلَيْهِ الَّذِي ارْتَأى ∗∗∗ ∗∗∗ وإنْ جَرَّ أسْبابَ الحَياةِ لَهُ الدَهْرُ وقَدْ قالَ قَوْمٌ: الحَدُّ خَمْسُونَ، ومِنهُ قالَ القائِلُ: ؎ أخُو الخَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أشُدِّي ∗∗∗ ∗∗∗ ونَجْدٌ في مُداوَرَةِ الشُؤُونِ وقالَ آخَرُ: ؎ وإنَّ أمْرَأً قَدْ عاشَ خَمْسِينَ حُجَّةً ∗∗∗ ∗∗∗ إلى مَنهَلٍ مِن وِرْدِهِ لَقَرِيبُ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وغَيْرُهُ: الحَدُّ في ذَلِكَ سِتُّونَ، وهي سِنُّ الإعْذارِ، وهَذا أيْضًا قَوْلٌ حَسَنٌ مُتَّجِهٌ، ورُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: « "إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ نُودِيَ: أيْنَ أبْناءُ السِتِّينَ؟" وهو العُمْرُ الَّذِي قالَ اللهُ فِيهِ: أو لَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مِن تَذَكُّرَ"،» وقالَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: " «مَن عَمَّرَهُ اللهُ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذَرَ إلَيْهِ في (p-٢٢٥)العُمْرِ".» وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "ما يَتَذَكَّرُ"،﴾ وقَرَأ الأعْمَشُ: "ما يَذَّكَّرُ"، [مَنِ اذَّكَرَ]. و[النَذِيرُ] في قَوْلِ الجُمْهُورِ: الأنْبِياءُ، وكُلُّ نَبِيٍّ نَذِيرُ أُمَّتِهِ ومُعاصِرِيهِ، ومُحَمَّدٌ ﷺ نَذِيرُ العالَمِ في غابِرِ الزَمَنِ، وقالَ الطَبَرَيُّ: "وَقِيلَ: النَذِيرُ الشَيْبُ"، وهو قَوْلٌ حَسَنٌ إلّا أنَّ الحُجَّةَ إنَّما تَقُومُ بِالنِذارَةِ الشَرْعِيَّةِ. وباقِي الآيَةِ بَيْنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب