الباحث القرآني

(p-٢٠٠)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ فاطِرٍ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ. قوله عزّ وجلّ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَماواتِ والأرْضِ جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿يا أيُّها الناسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكم هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكم مِن السَماءِ والأرْضِ لا إلَهَ إلا هو فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ ﴿وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ وإلى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ ﴿يا أيُّها الناسُ إنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُنْيا ولا يَغُرَّنَّكم بِاللهِ الغَرُورُ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "الحَمْدُ لِلَّهِ"،﴾ الألِفُ واللامُ في "الحَمْدُ" لِاسْتِغْراقِ الجِنْسِ عَلى أتَمِّ عُمُومٍ؛ لِأنَّ الحَمْدَ بِالإطْلاقِ عَلى الأفْعالِ الشَرِيفَةِ والكَمالُ هو لِلَّهِ، والشُكْرُ مُسْتَغْرَقٌ فِيهِ؛ لِأنَّهُ فَصْلٌ مِن فُصُولِهِ. و"فاطِرِ" مَعْناهُ: خالِقِ، لَكِنْ يَزِيدُ في المَعْنى الِانْفِرادُ بِالِابْتِداءِ لِخِلْقَتِها، ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ: "أنا فَطَرْتُها"، أرادَ: بَدَأْتُ حَفْرَها، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ما كُنْتُ أفْهَمُ مَعْنى "فاطِرٍ" حَتّى سَمِعْتُ قَوْلَ الأعْرابِيِّ. وقَرَأ الزُهْرِيُّ ؛ "الحَمْدُ لِلَّهِ فَطَرَ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "جاعِلِ" بِالخَفْضِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: [جاعِلُ] بِالرَفْعِ، عَلى قَطْعِ الصِفَةِ، وقَرَأ خالِدُ بْنُ نَشِيطٍ: [جَعَلَ] عَلى صِيغَةِ الماضِي (p-٢٠١)"المَلائِكَةَ" نَصْبًا، فَأمّا عَلى هَذِهِ القِراءَةِ الأخِيرَةِ فَنُصِبَ قَوْلُهُ: "رُسُلًا" عَلى المَفْعُولِ الثانِي، وأمّا عَلى القِراءَتَيْنِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ فَقِيلَ: أرادَ بِـ"جاعِلِ" الِاسْتِقْبالَ؛ لِأنَّ القَضاءَ في الأزَلِ، وحُذِفَ التَنْوِينُ تَخْفِيفًا، وعَمِلَ عَمَلَ المُسْتَقْبَلِ في "رُسُلًا". وقالَتْ فِرْقَةٌ: "جاعِلِ" بِمَعْنى المُضِيِّ، و"رُسُلًا" نُصِبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ، و"رُسُلًا" مَعْناهُ: بِالوَحْيِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أوامِرَ، فَجِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ وعِزْرائِيلُ وإسْرافِيلُ رُسُلٌ، والمَلائِكَةُ المُتَعاقِبُونَ رُسُلٌ، والمُسَدِّدُونَ لِحُكّامِ العَدْلِ رُسُلٌ، وغَيْرُ ذَلِكَ. وقَرَأ الحَسَنُ: "رُسْلًا" بِسُكُونِ السِينِ. و"أُولِي" جَمْعُ (ذُو)، ومِنهُ: التَقِيُّ ذُو نُهْيَةٍ، والقَوْمُ أُولُو نَهْيً، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ قَوْلِ مَرْيَمَ عَلَيْها السَلامُ: ﴿إنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ١٨]: عَلِمَتْ مَرْيَمُ أنَّ التَقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ﴾ ألْفاظٌ مَعْدُولَةٌ مِنَ اثْنَيْنِ وثَلاثَةٍ وأرْبَعَةٍ، عُدِلَتْ في حالِ التَنْكِيرِ فَتَعَرَّفَتْ بِالعَدْلِ، فَهي لا تَنْصَرِفُ لِلْعَدْلِ والتَعْرِيفِ، وقِيلَ: لِلْعَدْلِ والصِفَةِ، وفائِدَةُ العَدْلِ الدَلالَةُ عَلى التَكْرارِ: لِأنَّ "مَثْنى" بِمَنزِلَةِ قَوْلِكِ: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وقالَ قَتادَةُ: إنَّ أنْواعَ المَلائِكَةِ هي هَكَذا، مِنها ما لَهُ جَناحانِ، ومِنها ما لَهُ ثَلاثَةٌ، ومِنها ما لَهُ أرْبَعَةٌ، وشَذَّ مِنها ما لَهُ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ، ورُوِيَ أنَّ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ سِتَّمِائَةِ جَناحٍ مِنها اثْنانِ تَبْلُغُ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: إنَّ في كُلِّ جانِبٍ مِنَ المَلَكِ جَناحَيْنِ، ولِبَعْضِهِمْ أرْبَعَةٌ، وإلّا فَلَوْ كانَتْ ثَلاثَةٌ لِكُلِّ واحِدٍ لِما اعْتَدَلَتْ في مُعْتادِ ما رَأيْناهُ نَحْنُ مِنَ الأجْنِحَةِ، وقِيلَ: بَلْ هي ثَلاثَةٌ لِكُلِّ واحِدٍ كالحُوتِ، واللهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يَشاءُ﴾ تَقْرِيرٌ لِما يَقَعُ في النُفُوسِ مِنَ التَعَجُّبِ والِاسْتِغْرابِ عِنْدَ الخَبَرِ بِالمَلائِكَةِ أُولِي الأجْنِحَةِ، أيْ: لَيْسَ هَذا بِبِدْعٍ في قُدْرَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى؛ فَإنَّهُ يَزِيدُ في خَلْقِهِ ما يَشاءُ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، وابْنِ شِهابٍ أنَّهُما قالا: المَزِيدُ هو حُسْنُ الصَوْتِ، قالَ الهَيْثَمُ الفارِسِيُّ: رَأيْتُ النَبِيَّ ﷺ في النَوْمِ، فَقالَ لِي: "أنْتَ الهَيْثَمُ الَّذِي تُزَيِّنُ القُرْآنَ بِصَوْتِكَ، جَزاكَ اللهُ خَيْرًا"، وقِيلَ: الزِيادَةُ: الخَطُّ الحَسَنُ، وقالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: « "الخَطُّ الحَسَنُ يَزِيدُ الحَقَّ وُضُوحًا"،» وقالَ (p-٢٠٢)قَتادَةُ: الزِيادَةُ: مَلاحَةُ العَيْنَيْنِ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا، وإنَّما ذَكَرَ هَذِهِ الأشْياءَ مَن ذَكَرَها عَلى جِهَةِ المِثالِ، لا أنَّ المَقْصُودَ هي فَقَطْ، وإنَّما مَثَّلُوا بِأشْياءَ هي زِياداتٌ خارِجَةٌ عَنِ الغالِبِ المُعْتادِ المَوْجُودِ كَثِيرًا، وباقِي الآيَةِ بَيْنٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يَفْتَحِ اللهُ﴾، "ما" شَرْطٌ، و"يَفْتَحِ" جُزِمَ بِالشَرْطِ، و﴿مِن رَحْمَةٍ﴾ عامٌّ في كُلِّ خَيْرٍ يُعْطِيهِ اللهُ لِعِبادِهِ جَماعَتِهِمْ وأفْرادِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ: مِن بَعْدِ إمْساكِهِ، ومِن هَذِهِ الآيَةِ سَمَّتِ الصُوفِيَّةُ ما يُعْطاهُ (الصُوفِيُّ) مِنَ الأمْوالِ والمَطاعِمِ وغَيْرِ ذَلِكَ: الفُتُوحاتِ، ومِنها كانَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: "مُطِرْنا بِنَوْءِ الفَتْحِ"، ويَقْرَأُ الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الناسُ اذْكُرُوا﴾ الآيَةُ... خِطابٌ لِقُرَيْشٍ، وهو مُتَّجِهٌ لِكُلِّ كافِرٍ، ولا سِيَّما لِعُبّادِ غَيْرِ اللهِ، وذَكَّرَهم تَعالى بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِمْ في خَلْقِهِمْ وإيجادِهِمْ، ثُمَّ اسْتَفْهَمَهم عَلى جِهَةِ التَقْرِيرِ والتَوْقِيفِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ مِن خالِقٍ غَيْرُ اللهِ﴾ ؟ أيْ: فَلَيْسَ الإلَهُ إلّا الخالِقُ، لا ما تَعْبُدُونَ أنْتُمْ مِنَ الأصْنامِ، وقَرَأ حَمْزَةُ: "غَيْرِ" بِالخَفْضِ نَعَتٌ عَلى اللَفْظِ، وخَبَرُ الِابْتِداءِ ﴿ "يَرْزُقُكُمْ"،﴾ وبِها قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَقِيقٌ، وابْنُ وثّابٍ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَفْعِ، وهي قِراءَةُ شَيْبَةَ بْنِ نِصاحٍ، وعِيسى، والحَسْنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وذَلِكَ يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ أوجُهٍ: النَعْتُ عَلى المَوْضِعِ والخَبَرُ مُضْمَرٌ، تَقْدِيرُهُ: في الوُجُودِ، أو في العالَمِ. وأنْ يَكُونَ "غَيْرُ" خَبَرَ الِابْتِداءِ الَّذِي هو في المَجْرُورِ، والرَفْعُ عَلى الِاسْتِثْناءِ، كَأنَّهُ قالَ: هَلْ خالِقٌ إلّا اللهُ؟ فَجَرَتْ "غَيْرُ" مَجْرى الفاعِلِ بَعْدَ إلّا. وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ السَماءِ﴾ يُرِيدُ: بِالمَطَرِ، ومِنَ "الأرْضِ" يُرِيدُ: بِالنَباتِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأنّى تُؤْفَكُونَ﴾ أيْ:فَلا وجْهَ تُصْرَفُونَ "فِيهِ" عَنِ الحَقِّ. (p-٢٠٣)ثُمَّ سَلّى نَبِيَّهُ ﷺ بِما سَلَفَ مِن حالِ الرُسُلِ مَعَ الأُمَمِ، و"الأُمُورُ" تَعُمُّ جَمِيعَ المَوْجُوداتِ المَخْلُوقاتِ، إلى اللهِ مَصِيرُ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلى اخْتِلافِ أحْوالِها، وفي هَذا وعِيدٌ لِلْكُفّارِ ووَعْدٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ. ثُمَّ وعَظَ جَمِيعَ العالِمِ وحَذَّرَهم غُرُورَ الدُنْيا بِنَعِيمِها وزُخْرُفِها، الشاغِلَةِ عَنِ المَعادِ الَّذِي لَهُ يَقُولُ الإنْسانُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي، ولا يَنْفَعُهُ "لَيْتَ" يَوْمَئِذٍ، وحَذَّرَ غُرُورَ الشَيْطانِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ عِبارَةٌ عن جَمِيعِ خَبَرِهِ عَزَّ وجَلَّ في خَيْرٍ وتَنْعِيمٍ أو عَذابٍ وعِقابٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الغَرُورُ" بِفَتْحِ الغَيْنِ، وهو الشَيْطانُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقَرَأ سَمّاكٌ العَبْدِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ: "الغُرُورُ" بِضَمِّ الغَيْنِ، وذَلِكَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ غارٍّ كَجالِسٍ وجُلُوسٍ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ غَرٍّ، وهو مَصْدَرُ غَرَّهُ يَغُرُّهُ غَرًّا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وإنْ كانَ شاذًّا في الأفْعالِ المُتَعَدِّيَةِ أنْ يَجِيءَ مَصْدَرُها عَلى "فُعُولٍ" لَكِنَّهُ قَدْ جاءَ: "لَزِمَهُ لُزُومًا"، و"نَهَكَهُ المَرَضُ نُهُوكًا"، فَهَذا مِثْلُهُ، وكَذَلِكَ هو مَصْدَرٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَدَلاهُما بِغُرُورٍ﴾ [الأعراف: ٢٢].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب