الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهم وبَيْنَ القُرى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرًى ظاهِرَةً وقَدَّرْنا فِيها السَيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وأيّامًا آمِنِينَ﴾ ﴿فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أسْفارِنا وظَلَمُوا أنْفُسَهم فَجَعَلْناهم أحادِيثَ ومَزَّقْناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾
هَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها وصْفٌ لِحالِهِمْ قَبْلَ مَجِيءِ السَيْلِ، وهي أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى - مَعَ ما كانَ مِنهم - مَنَحَهم مِنَ الجَنَّتَيْنِ والنِعْمَةِ الخاصَّةِ بِهِمْ، كانَ قَدْ أصْلَحَ لَهُمُ البِلادَ المُتَّصِلَةَ بِهِمْ وعَمَّرَها، وجَعَلَهم أرْبابَها، وقَدَّرَ فِيها السَيْرَ بِأنْ قَرَّبَ القُرى بَعْضَها مِن بَعْضٍ، حَتّى كانَ المُسافِرُ مِن مَأْرَبَ إلى الشامِ لَيَبِيتُ في قَرْيَةٍ ويَقِيلُ في قَرْيَةٍ، أُخْرى، فَلا يَحْتاجُ إلى حَمْلِ زادٍ، و"القُرى": المُدُنُ، ويُقالُ لِلْجَمْعِ الصَغِيرِ قَرْيَةٌ أيْضًا، وكُلُّها مِن: قَرَيْتُ، أيْ جَمَعْتُ، والقُرى الَّتِي بُورِكَ فِيها هي قُرى الشامِ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، والقُرى الظاهِرَةُ هي الَّتِي بَيْنَ الشامِ ومَأْرَبَ، وهي الصِغارُ الَّتِي هي البَوادِي. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي قُرًى عَرَبِيَّةٌ بَيْنَ المَدِينَةِ والشامِ، وقالَهُ الضَحّاكُ، واخْتُلِفَ في مَعْنى "ظاهِرَةً"، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: مُسْتَعْلِيَةً مُرْتَفِعَةً في الإكامِ والظِرابِ، وهي أشْرَفُ القُرى، وقالَتْ فِرْقَةٌ: يَظْهَرُ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، فَهي أبَدًا في قَبْضَةِ عَيْنِ المُسافِرِ، لا يَخْلُو مِن رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنها بِهَذا الوَجْهِ. والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ مَعْنى "ظاهِرَةً": خارِجَةً عَنِ المُدُنِ، فَهي عِبارَةٌ عَنِ القُرى الصِغارِ الَّتِي هي في ظَواهِرِ المُدُنِ، فَإنَّما فَصَلَ بِهَذِهِ الصِفَةِ بَيْنَ القُرى الصِغارِ وبَيْنَ القُرى المُطْلَقَةِ الَّتِي هي المُدُنُ؛ لِأنَّ ظَواهِرَ المُدُنِ ما خَرَجَ عنها في الفَيافِي والفُحُوصِ، ومِنهُ قَوْلُهُمْ: نَزَلْنا بِظاهِرِ فُلانَةٍ، أيْ: خارِجًا عنها. وقَوْلُهُ: "ظاهِرَةً" نَظِيرُ تَسْمِيَةِ الناسِ إيّاها البادِيَةَ والضاحِيَةَ، ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ فَلَوْ شَهِدَتْنِي مِن قُرَيْشٍ عِصابَةٌ ∗∗∗ قُرَيْشُ البِطاحِ لا قُرَيْشُ الظَواهِرِ
(p-١٧٩)يَعْنِي الخارِجِينَ عن بَطْحاءِ مَكَّةَ، وفي حَدِيثِ الِاسْتِسْقاءِ: « "وَجاءَ أهْلُ الضَواحِي يَشْتَكُونَ: الغَرَقُ الغَرَقُ".»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدَّرْنا فِيها السَيْرَ﴾، هو ما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ المُسافِرَ فِيها كانَ يَبِيتُ في قَرْيَةٍ ويَقِيلُ في أُخْرى عَلى أيِّ طَرِيقٍ سَلَكَ، لا يُعْوِزُهُ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سِيرُوا فِيها﴾ مَعْناهُ: قُلْنا لَهم. و[آمِنِينَ] مَعْناهُ: مِنَ الخَوْفِ مِنَ الناسِ المُفْسِدِينَ، وآمِنِينَ مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وآفاتِ المُسافِرِ.
ثُمَّ حَكى عنهم مَقالَةً قالُوها عَلى جِهَةِ البَطَرِ والأشَرِ، وهي طَلَبُ البُعْدِ بَيْنَ الأسْفارِ، والإخْبارُ بِأنَّها بَعِيدَةٌ عَلى القِراءاتِ الأُخْرى، وذَلِكَ أنَّ نافِعًا، وعاصِمًا، وحَمْزَةَ، والكِسائِيَّ قَرَؤُوا: "باعِدْ بَيْنَ أسْفارِنا" بِكَسْرِ العَيْنِ عَلى مَعْنى الطَلَبِ أيْضًا، فَهاتانِ مَعْناهُما الأشَرُ بِأنَّهم مَلُّوا النِعْمَةَ بِالقُرْبِ، وطَلَبُوا اسْتِبْدالَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ. وفي كِتابِ الرُمّانِيِّ أنَّهم قالُوا: لَوْ كانَ جَنْيُ ثِمارِنا أبْعَدَ لَكانَ أشْهَرَ وأكْثَرَ قِيمَةً، وقَرَأ ابْنُ السَمَيْفَعِ، وسُفْيانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وسَعِيدُ بْنُ أبِي الحَسَنِ - أخُو الحَسَنِ - وابْنُ الحَنَفِيَّةِ: "رَبَّنا" بِالنَصْبِ "بَعُدَ بَيْنَ أسْفارِنا" بِفَتْحِ الباءِ وضَمِّ العَيْنِ، ونَصْبِ "بَيْنَ" (p-١٨٠)أيْضًا. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ أبِي الحَسَنِ - مِن هَذِهِ الفِرْقَةِ -: "بَيْنُ" بِالرَفْعِ وإضافَتِهِ إلى الأسْفارِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو رَجاءٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وابْنُ الحَنَفِيَّةِ: أيْضًا "رَبُّنا" بِالرَفْعِ "باعَدَ" بِفَتْحِ العَيْنِ والدالِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ الحَنَفِيَّةِ أيْضًا، وعَمْرُو بْنُ فايِدٍ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ: "رَبُّنا" بِالرَفْعِ "بَعَّدَ" بِفَتْحِ العَيْنِ وشَدِّها وفَتْحِ الدالِ. فَهَذِهِ القِراءَةُ مَعْناها الإخْبارُ بِأنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا القَرِيبَ، ورَأوا أنَّ ذَلِكَ غَيْرَ مُقْنِعٍ لَهُمْ، حَتّى كَأنَّهم أرادُوها مُتَّصِلَةً بِالدُورِ، وفي هَذا تَعَسُّفٌ وتَسَخُّطٌ عَلى أقْدارِ اللهِ تَعالى وإرادَتِهِ، وقِلَّةُ شُكْرٍ عَلى نِعْمَتِهِ، بَلْ هي مُقابَلَةُ النِعْمَةِ بِالتَشَكِّي. وفي هَذا المَعْنى ونَحْوِهِ مِمّا اقْتَرَنَ بِكُفْرِهِمْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَفَرَّقَهُمُ اللهُ تَعالى، وخَرَّبَ بِلادَهُمْ، وجَعَلَهم أحادِيثَ، ومِنهُ المَثَلُ السائِرُ: "تَفَرَّقُوا أيادِي سَبَأٍ"، و"أيْدِي سَبَأٍ" ويُقالُ المَثَلُ بِالوَجْهَيْنِ، وهَذا هو تَمَزُّقُهم كُلَّ مُمَزَّقٍ، ورُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: "إنَّ سَبَأً أبُو عَشْرِ قَبائِلَ"،» فَلَمّا جاءَ السَيْلُ عَلى مَأْرَبَ وهو اسْمُ بَلَدِهِمْ تَيامَنَ مِنهم سِتَّةُ قَبائِلَ، أيْ: إذْ تَبَدَّدَتْ في بِلادِ اليَمَنِ، وتَشاءَمَتْ مِنها أرْبَعَةٌ، فالمُتَيامِنَةُ كِنْدَةُ والأزْدُ وأشْعَرُ ومَذْحِجٌ وأنْمارٌ الَّتِي مِنها بَجِيلَةُ وخَثْعَمٌ، وطائِفَةٌ قِيلَ لَها: حِمْيَرٌ، بَقِيَ عَلَيْها اسْمُ الأبِ الأوَّلِ، والَّتِي تَشاءَمَتْ لَخْمٌ وجُذامٌ وغَسّانُ وخُزاعَةُ، نَزَلَتْ تِهامَةَ، ومِن هَذِهِ المُتَشائِمَةِ أولادُ قَيْلَةَ، وهُمُ الأوسُ والخَزْرَجُ، ومِنها عامِلَةُ وغَيْرُ ذَلِكَ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وأُمَّتَهُ - عَلى جِهَةِ التَنْبِيهِ - أنَّ هَذِهِ القَصَصَ فِيها آياتٌ وعِبَرٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ عَلى الكَمالِ، ومَنِ اتَّصَفَ بِالصَبْرِ والشُكْرِ فَهو المُؤْمِنُ الَّذِي لا تَنْقُصُهُ خَلَّةٌ جَمِيلَةٌ بِوَجْهٍ.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ","فَقَالُوا۟ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ"],"ayah":"فَقَالُوا۟ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











