الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ ﴿لِيَسْألَ الصادِقِينَ عن صِدْقِهِمْ وأعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكم إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها وكانَ اللهِ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ "إذْ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِسَطْرِ الأحْكامِ المُتَقَدِّمَةِ في الكِتابِ، كَأنَّهُ قالَ: كانَتْ هَذِهِ الأحْكامُ مُسَطَّرَةٌ مُلْقاةٌ إلى الأنْبِياءِ إذْ أخَذْنا عَلَيْهِمُ المِيثاقَ في التَبْلِيغِ والشَرائِعِ، فَيَكُونُ "إذْ" مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿كانَ ذَلِكَ في الكِتابِ مَسْطُورًا﴾ [الأحزاب: ٦]. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ (p-٩٤)بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ إذْ، وهَذا التَأْوِيلُ أبْيَنُ مِنَ الأوَّلِ: وهَذا المِيثاقُ المُشارُ إلَيْهِ قالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: إنَّهُ الَّذِي أخَذَ عَلَيْهِمْ وقْتَ اسْتِخْراجِ البَشَرِ مِن صُلْبِ آدَمَ كالذَرِّ، قالُوا: فَأخَذَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى حِينَئِذٍ مِيثاقَ النَبِيِّينَ بِالتَبْلِيغِ وبِتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وبِجَمِيعِ ما تَتَضَمَّنُهُ النُبُوَّةُ، ورُوِيَ نَحْوَهُ عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ أشارَ إلى أخْذِ المِيثاقِ عَلى كُلٍّ واحِدٍ مِنهم عِنْدَ بَعْثِهِ، وإلى إلْقاءِ الرِسالَةِ إلَيْهِ وأوامِرِها ومُعْتَقَداتِها. وذَكَرَ اللهُ تَعالى النَبِيِّينَ جُمْلَةً، ثُمَّ خَصَّصَ بِالذِكْرِ أفْرادًا مِنهم تَشْرِيفًا وتَعْظِيمًا، إذْ هَؤُلاءِ الخَمْسَةُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِمْ وسَلَّمَ هم أصْحابُ الكُتُبِ والشَرائِعِ والحُرُوبِ الفاصِلَةِ عَلى التَوْحِيدِ وأُولُو العَزْمِ، ذَكَرَهُ الثَعْلَبِيُّ، وقُدِّمَ ذِكْرُ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلى مَزِيَّتِهِ في الزَمَنِ تَشْرِيفًا خاصًّا لَهُ أيْضًا، ورُوِيَ عنهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ أنَّهُ قالَ: « "كُنْتُ أوَّلُ الأنْبِياءِ في الخَلْقِ وآخِرُهم في البَعْثِ".» وكَرَّرَ أخْذَ المِيثاقِ لِمَكانِ الصِفَةِ الَّتِي وُصِفَ بِها، و"غَلِيظًا" إشْعارٌ بِحُرْمَةٍ هَذا المِيثاقِ وقُوَّتِها، واللامُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ "لِيَسْألَ"﴾ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ"أخَذْنا"، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لامُ كَيْ، أيْ: بُعِثَتِ الرُسُلُ وأُخِذَتْ عَلَيْها المَواثِيقُ في التَبْلِيغِ لِكَيْ يَجْعَلَ اللهُ خَلْقَهُ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ صادِقَةٌ يَسْألُها عن صِدْقِها، عَلى مَعْنى إقامَةِ الحُجَّةِ والتَقْرِيرِ، كَما قالَ لِعِيسى عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي﴾ [المائدة: ١١٦] ؟ فَتُجِيبُهُ كَأنَّها قَدْ صَدَّقَتِ اللهُ في إيمانِها وجَمِيعِ أفْعالِها، فَيُثِيبُها عَلى ذَلِكَ، وفُرْقَةٌ كَفَرَتْ فَيَنالُها ما أُعِدَّ لَها مِنَ العَذابِ الألِيمِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ اللامُ في قَوْلِهِ: "لِيَسْألَ" لامُ الصَيْرُورَةِ، أيْ: أخَذَ المَواثِيقَ عَلى الأنْبِياءِ لِيَصِيرَ الأمْرُ إلى كَذا، والأوَّلُ أصْوَبُ. والصِدْقُ في هَذِهِ الآيَةِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُضادُّ لِلْكَذِبِ في القَوْلِ، ويُحْتَمَلُ أنْ (p-٩٥)يَكُونُ مِن صِدْقِ الأفْعالِ واسْتِقامَتِها، ومِنهُ: عَوْدُ صِدْقٍ، وصَدَقَنِي السَيْفُ والمالُ، وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿ "الصادِقِينَ"﴾ في هَذِهِ الآيَةِ أرادَ بِهِمُ الرُسُلَ، أيْ: يَسْألُهم عن تَبْلِيغِهِمْ، وقالَ أيْضًا: أرادَ المُؤَدِّينَ المُبَلِّغِينَ عَنِ الرُسُلِ. وهَذا كُلُّهُ مُحْتَمَلٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ﴾ [المائدة: ١١]، إلى قَوْلِهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ قُلْ لأزْواجِكَ﴾ [الأحزاب: ٢٨] نَزَلَتْ في شَأْنِ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ وما اتَّصَلَ بِها مِن أمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وذَلِكَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ أجْلى بَنِي النَضِيرِ مِن مَوْضِعِهِمْ عِنْدَ المَدِينَةِ إلى خَيْبَرَ، فاجْتَمَعَتْ جَماعَةٌ مِنهم ومَن غَيْرِهِمْ مِنَ اليَهُودِ وخَرَجُوا إلى مَكَّةَ مُسْتَنْهِضِينَ قُرَيْشًا إلى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وجَسَّرُوهم عَلى ذَلِكَ، وأزْمَعَتْ قُرَيْشٌ السَيْرَ إلى المَدِينَةِ، ونَهَضَ اليَهُودُ إلى غَطْفانَ وبَنِي أسَدٍ ومَن أمَّلَهم مِن أهْلِ نَجْدٍ وتِهامَةَ، فاسْتَنْفَرُوهم إلى ذَلِكَ، فَتَحَزَّبَ الناسُ وسارُوا إلى المَدِينَةِ، واتَّصَلَ الخَبَرُ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فَحَفَرَ الخَنْدَقَ حَوْلَ دِيارٍ بِالمَدِينَةِ وحِصْنِهِ، وكانَ أمْرًا لَمْ تَعْهَدْهُ العَرَبُ، وإنَّما كانَ مِن أعْمالِ فارِسٍ والرُومِ، وأشارَ بِهِ سَلْمانُ الفارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَوَرَدَ الأحْزابُ، قُرَيْشٌ وكِنانَةُ والأحابِيشُ في نَحْوِ عَشَرَةِ آلافٍ عَلَيْهِمْ أبُو سُفْيانُ بْنُ حَرْبٍ، ووَرَدَتْ غَطْفانُ وأهْلُ نَجْدٍ عَلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنُ بَدْرٍ الفَزارِيُّ، ووَرَدَتْ بَنُو عامِرٍ وغَيْرُهم عَلَيْهِمْ عامِرُ بْنُ الطُفَيْلِ إلى غَيْرِ هَؤُلاءِ، فَحَصَرُوا المَدِينَةَ، وذَلِكَ في شَوّالِ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ، عَلى ما قالَ ابْنُ إسْحاقٍ، وقالَ مالِكٌ: كانَتْ سَنَةَ أرْبَعٍ، وكانَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ قَدْ عاهَدُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ عَلى الهُدْنَةِ، وعاقَدُوهُ عَلى أنْ لا يَلْحَقُهُ مِنهم ضَرَرٌ، فَلَمّا تَمَكَّنَ هَذا الحِصارُ واثَقَهم بَنُو النَضِيرِ، فَغَدَرُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، ونَقَضُوا العَهْدَ، وصارُوا لَهُ حِزْبًا مَعَ الأحْزابِ، فَضاقَ الحالُ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ والمُؤْمِنِينَ، وكَثُرَتِ الظُنُونُ ورَسُولُ اللهِ ﷺ يُبَشِّرُ ويَعِدُ بِالنَصْرِ. ثُمَّ ألْقى اللهُ تَعالى الرُعْبَ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ، ويَئِسُوا مِنَ الظَفَرِ بِمَنَعَةِ الخَنْدَقِ، وبِما رَأوا مِن جَلَدِ المُؤْمِنِينَ، وجاءَ رَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ اسْمَهُ نَوْفَلُ بْنُ الحارِثِ - وقِيلَ غَيْرُ هَذا - فاقْتَحَمَ الخَنْدَقَ بِفَرَسِهِ فَقُتِلَ فِيهِ، فَكانَ ذَلِكَ حاجِزًا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعالى بَعَثَ (p-٩٦)الصِبا لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ ﷺ عَلى الكُفّارِ، فَطَرَدَتْهُمْ، وهَدَّدَتْ بُيُوتَهُمْ، وأطْفَأتْ نِيرانَهُمْ، وقَطَعَتْ حِبالَهُمْ، وأطِفَأتْ قُدُورَهُمْ، ولَمْ يُمْكِنْهم مَعَها قَرارٌ، وبَعَثَ اللهُ مَعَ الصِبا مَلائِكَةً تُشَدِّدُ الرِيحَ، وتَفْعَلُ نَحْوَ فِعْلِها، وتُلْقِي الرُعْبَ في قُلُوبِ الكَفَرَةِ حَتّى أزْمَعُوا الرِحْلَةَ بَعْدَ بِضْعٍ وعِشْرِينَ لَيْلَةً لِلْحَصْرِ، فانْصَرَفُوا خائِبِينَ، فَهَذِهِ الجُنُودُ الَّتِي لَمْ تُرَ.» وقَرَأ الحَسَنُ: "وَجُنُودًا" بِفَتْحِ الجِيمِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: تَعْمَلُونَ بِالتاءِ، فَكَأنَّ في الآيَةِ مُقابَلَةً لَهُمْ، أيْ: أنْتُمْ لَمْ تَرَوْا جُنُودَهُ وهو بَصِيرٌ بِأعْمالِكُمْ، فَيَتَبَيَّنُ في هَذا القُدْرَةِ والسُلْطانِ، وقَرَأ أبُو عَمْرُو وحْدَهُ: "يَعْمَلُونَ" بِالياءِ عَلى مَعْنى الوَعِيدِ لِلْكَفَرَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرُو أيْضًا بِالتاءِ، وهُما حَسَنَتانِ، ورُوِيَ عن أبِي عُمْرَةَ: "لَمْ يَرَوْها" مِن تَحْتٍ، قالَ أبُو حاتِمٍ: قِراءَةُ العامَّةِ: "لَمْ تَرَوْها" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ، ونافِعٍ، والأعْرَجِ: "يَعْلَمُونَ" بِالتاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب