قوله عزّ وجلّ:
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلا قَلِيلا﴾ ﴿مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلا﴾ ﴿سُنَّةَ اللهِ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾
اللامُ في "لَئِنْ" هي المُؤْذِنَةُ بِمَجِيءِ القَسَمِ، واللامُ في "لَنُغْرِيَنَّكَ" هي لامُ القَسَمِ، وتَوَعَّدَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى هَذِهِ الأصْنافَ في هَذِهِ الآيَةِ، وقَرَنَ تَوَعُّدَهُ بِقَرِينَةِ مُتابَعَتِهِمْ في تَرْكِهِمُ الِانْتِهاءَ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ هَذِهِ الأصْنافَ لَمْ تَنْتَهِ، ولَمْ يُنَفِّذِ اللهُ تَعالى عَلَيْها هَذا الوَعِيدَ، فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلى بُطْلانِ القَوْلِ بِإنْفاذِ الوَعِيدِ في الآخِرَةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّ هَذِهِ الأصْنافَ انْتَهَتْ، وتَسَتَّرَ جَمِيعُهم بِأمْرِهِمْ وكَفَوْا، وما بَقِيَ مِن أمْرِهِمْ أنْفَذَ اللهُ تَعالى وعِيدًا بِإزائِهِ، وهو مِثْلُ نَهْيِ النَبِيِّ ﷺ عَنِ الصَلاةِ عَلَيْهِمْ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا أحَلَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالمُنافِقِينَ: مِنَ الإذْلالِ في إخْراجِهِمْ مِنَ المَسْجِدِ، وبِما نَزَلَ فِيهِمْ مِن سُورَةِ بَراءَةَ، وغَيْرِ ذَلِكَ، فَهم لَمْ يَمْتَثِلُوا الِانْتِهاءَ جُمْلَةً، ولا نَفَذَ عَلَيْهِمُ الوَعِيدُ كامِلًا.
و"المُنافِقُونَ" صِنْفٌ يُظْهِرُ الإيمانَ ولا يُبْطِنُهُ، ﴿والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾، ﴿والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ﴾ هم قَوْمٌ مِنَ المُنافِقِينَ كانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِغَزْوِ العَرَبِ المَدِينَةَ، وبِأنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سَيُغْلَبُ، إلى نَحْوِ هَذا مِمّا يَرْجُفُونَ بِهِ نُفُوسَ المُؤْمِنِينَ، فَيُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأصْنافُ مُفْتَرِقَةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ داخِلَةً: في جُمْلَةِ المُنافِقِينَ لَكِنَّهُ نَصَّ عَلى هاتَيْنِ الطائِفَتَيْنِ - وقَدْ ضَمَّهم عُمُومَ لَفْظَةِ النِفاقِ - تَنْبِيهًا عَلَيْهِمْ، وتَشْرِيدًا بِهِمْ، وغَضًّا مِنهم.
و"نُغْرِيَنَّكَ" مَعْناهُ: نَحُضُّكَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ تَعْيِينِهِمْ لَكَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لِنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، وقالَ قَتادَةُ: لِنَحْرُسَنَّكَ بِهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ﴾ (p-١٤٩)أيْ بَعْدَ الإغْراءِ؛ لِأنَّكَ تَنْفِيهِمْ بِالإخافَةِ والقَتْلِ، ﴿إلا قَلِيلا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إلّا جِوارًا قَلِيلًا أو وقْتًا قَلِيلًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: إلّا عَدَدًا قَلِيلًا كَأنَّهُ قالَ: إلّا أقِلّاءَ. وقَوْلُهُ: "مَلْعُونِينَ" يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى الذَمِّ، قالَهُ الطَبَرِيُّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن "أقِلّاءَ" الَّذِي قَدَّرْناهُ قَبْلُ في أحَدِ التَأْوِيلاتِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَمِيرِ في "يُجاوِرُونَكَ" كَأنَّهُ قالَ: يَنْتَفُونَ مِنَ المَدِينَةِ مَلْعُونِينَ، [فَلَمّا تَقَرَّرَ "لا يُجاوِرُونَكَ" تَقْدِيرُ "يَنْتِفُونَ" حَسُنَ هَذا]، واللَعْنَةُ: الإبْعادُ، و"ثُقِفُوا" مَعْناهُ: حُصِرُوا وقُدِّرَ عَلَيْهِمْ، و"أُخِذُوا" مَعْناهُ: أُسِرُوا، والأخِيذُ: الأسِيرُ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ: "أكْذَبُ مِنَ الأخِيذِ الصَبْحانِ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "وَقُتِّلُوا"﴾ بِشَدِّ التاءِ، ويُؤَيِّدُها المَصْدَرُ بَعْدَها، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِتَخْفِيفِ التاءِ، والمَصْدَرُ - عَلى هَذِهِ القِراءَةِ - عَلى غَيْرِ قِياسٍ، قالَ الأعْمَشُ: كُلُّ ما في القُرْآنِ غَيْرَ هَذا المَوْضِعِ فَهو "قُتِلُوا" بِالتَخْفِيفِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "سُنَّتَ اللهِ"﴾ [غافر: ٨٥] نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، ويَجُوزُ فِيهِ الإغْراءُ عَلى بُعْدٍ، و﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ هم مُنافِقُو الأُمَمِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا﴾، أيْ: مِن غالِبٍ يَسْتَقِرُّ تَبْدِيلُهُ، فَيَخْرُجُ عَلى هَذا تَبْدِيلُ العُصاةِ والكَفَرَةِ، ويَخْرُجُ عنهُ ما يُبَدِّلُهُ اللهُ مِن سَنَةٍ بِسُنَّةٍ بِالنَسْخِ.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["۞ لَّىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا یُجَاوِرُونَكَ فِیهَاۤ إِلَّا قَلِیلࣰا","مَّلۡعُونِینَۖ أَیۡنَمَا ثُقِفُوۤا۟ أُخِذُوا۟ وَقُتِّلُوا۟ تَقۡتِیلࣰا","سُنَّةَ ٱللَّهِ فِی ٱلَّذِینَ خَلَوۡا۟ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِیلࣰا"],"ayah":"۞ لَّىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِی ٱلۡمَدِینَةِ لَنُغۡرِیَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا یُجَاوِرُونَكَ فِیهَاۤ إِلَّا قَلِیلࣰا"}