الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ما كانَ عَلى النَبِيِّ مِن حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهُ في الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وكانَ أمْرُ اللهُ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ويَخْشَوْنَهُ ولا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلا اللهِ وكَفى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكم ولَكِنْ رَسُولَ اللهِ وخاتَمَ النَبِيِّينَ وكانَ اللهِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلا﴾ ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكم ومَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكم مِنَ الظُلُماتِ إلى النُورِ وكانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وأعَدَّ لَهم أجْرًا كَرِيمًا﴾ هَذِهِ مُخاطَبَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِجَمِيعِ الأُمَّةِ، أعْلَمَهم أنَّهُ لا حَرَجَ عَلى رَسُولِ اللهِ ﷺ في نَيْلِ ما فَرَضَ اللهُ لَهُ وأباحَهُ، مِن تَزْوِيجِ زَيْنَبَ بَعْدَ زَيْدٍ، ثُمَّ أعْلَمَ أنَّ هَذا ونَحْوَهُ هو السُنَنُ الأقْدَمُ في الأنْبِياءِ، مِن أنْ يَنالُوا ما أحَلَّ اللهُ لَهُمْ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ عن مُقاتِلٍ وابْنِ الكَلْبِيِّ أنَّ الإشارَةَ إلى داوُدَ عَلَيْهِ السَلامُ، حَيْثُ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن فُتِنَ بِها، و"سُنَّةَ" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، أو عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: الزَمَ أو نَحْوَهُ، أو عَلى الإغْراءِ، كَأنَّهُ قالَ: فَعَلَيْهِ سُنَّةُ اللهِ. و"الَّذِينَ خَلَوْا" هُمُ الأنْبِياءُ، بِدَلِيلِ وصْفِهِمْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ﴾. و"أمْرُ اللهِ" في هَذِهِ الآيَةِ، أيْ: مَأْمُوراتُ اللهِ والكائِناتِ عن (p-١٢٥)أمْرِهِ، فَهي مَقْدُورَةٌ، وقَوْلُهُ: "قَدَرًا" فِيهِ حَذْفُ مُضافٍ، أيْ: ذا قَدْرٍ وعن قَدْرٍ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "الَّذِينَ بَلَّغُوا رِسالاتِ اللهِ". وقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَخْشَوْنَ أحَدًا إلا اللهَ﴾ تَعْرِيضٌ بِالعِتابِ الأوَّلُ في خَشْيَةِ النَبِيِّ ﷺ الناسَ، ثُمَّ رَدَّ الأمْرَ كُلَّهُ إلى اللهِ، وأنَّهُ المُحاسِبُ عَلى جَمِيعِ الأعْمالِ والمُعْتَقَداتُ، وكَفى بِهِ لا إلَهَ إلّا هُوَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ﴿ "حَسِيبًا"﴾ بِمَعْنى "مُحْسِبًا"، أيْ كافِيًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِن رِجالِكُمْ﴾. اذْهَبَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ ما وقَعَ في نُفُوسِ مُنافِقِينَ وغَيْرِهِمْ مِن بَعْدِ تَزَوُّجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ زَيْنَبَ زَوْجَةَ دَعِيِّهِ زَيْدٍ؛ لِأنَّهم كانُوا اسْتَعْظَمُوا أنْ تَزَوَّجَ زَوْجَةَ ابْنِهِ، فَنَفى القُرْآنُ تِلْكَ الصُورَةَ في البُنُوَّةِ، وأعْلَمُ أنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ في حَقِيقَةِ أمْرِهِ أبا أحَدٍ مِن رِجالِ المُعاصِرِينَ لَهُ، ولَمْ يُقْصَدْ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ النَبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ فَيَحْتاجُ إلى الِاحْتِجاجِ بِأمْرِ بَنِيهِ بِأنَّهم كانُوا ماتُوا، ولا في أمْرِ الحَسَنِ والحُسَيْنِ بِأنَّهُما كانا طِفْلَيْنِ، ومَنِ احْتَجَّ بِذَلِكَ فَإنَّهُ تَأوَّلَ نَفْيَ البُنُوَّةِ عنهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى غَيْرِ ما قُصِدَ بِها. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ وبَعْضُ الناسِ: "وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ" بِالرَفْعِ عَلى مَعْنى: هو رَسُولُ اللهِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وعاصِمٌ، والأعْرَجُ، وعِيسى: "رَسُولَ" بِالنَصْبِ عَلى العَطْفِ عَلى "أبا"، وهَؤُلاءِ قَرَؤُوا "وَلَكِنْ" بِالتَخْفِيفِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَلَكِنَّ" بِشَدِّ النُونِ، فَيَنْتَصِبُ "رَسُولَ" عَلى أنَّهُ اسْمُ "لَكِنَّ" والخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ، والحَسَنُ، والشَعْبِيُّ، والأعْرَجُ بِخِلافٍ: ﴿ "وَخاتَمَ النَبِيِّينَ"﴾ بِفَتْحِ التاءِ عَلى مَعْنى أنَّهم بِهِ خَتَمُوا، فَهو كالخاتَمِ والطابَعِ لَهُمْ، وقَرَأ الباقُونَ والجُمْهُورُ بِكَسْرِ التاءِ بِمَعْنى أنَّهُ خَتْمُهُمْ، أيْ جاءَ آخِرُهُمْ، ورَوَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ قالَ: « "أنا خاتَمُ ألْفِ نَبِيٍّ"،» بِفَتْحِ التاءِ، وهَذِهِ الألْفاظُ عِنْدَ جَماعَةِ عُلَماءِ (p-١٢٦)الأُمَّةِ خَلَفًا وسُلَفًا مُتَلَقّاةٌ عَلى العُمُومِ التامِّ، مُقْتَضِيَةٌ نَصًّا أنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وما ذَكَرَهُ القاضِي ابْنُ الطَيِّبِ في كِتابِهِ المُسَمّى بِالهِدايَةِ مِن تَجْوِيزِ الِاحْتِمالِ في ألْفاظِ هَذِهِ الآيَةِ ضَعِيفٌ، وما ذَكَرَهُ الغَزالِي في هَذِهِ الآيَةِ وهَذا المَعْنى في كِتابِهِ الَّذِي سَمّاهُ بِالِاقْتِصادِ إلْحادٌ عِنْدِي، وتَطَرُّقٌ خَبِيثٌ إلى تَشْوِيشِ عَقِيدَةِ المُسْلِمِينَ في خَتْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ النُبُوءَةَ، فالحَذِرُ الحَذِرُ مِنهُ، واللهُ الهادِي بِرَحْمَتِهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مِن رِجالِكم ولَكِنَّ نَبِيَّنا خَتَمَ النَبِيِّينَ"، قالَ الرُمّانِيُّ خَتَمَ بِهِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ الِاسْتِصْلاحَ فَمَن لَمْ يَصْلُحْ بِهِ فَمَيْئُوسٌ مِن صَلاحِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ عُمُومٌ، والمَقْصُودُ بِهِ هُنا عِلْمُهُ تَبارَكَ وتَعالى بِما رَآهُ الأصْلَحَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وما قَدَّرَهُ في الأمْرِ كُلِّهِ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى عِبادَهُ بِأنْ يَذْكُرُوهُ ذِكْرًا كَثِيرًا، وجَعَلَ ذَلِكَ دُونَ حَدٍّ ولا تَقْدِيرٍ لِسُهُولَتِهِ عَلى العَبِيدِ، ولِعِظَمِ الأجْرِ فِيهِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لَمْ يُعْذَرْ أحَدٌ في تَرْكِ ذِكْرِ اللهِ إلّا مَن غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ، وقالَ: الكَثِيرُ: أنْ لا يَنْساهُ أبَدًا، ورَوى أبُو سَعِيدٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: « "أكْثِرُوا ذِكْرَ اللهِ حَتّى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ".» وقَوْلُهُ: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلا﴾ أرادَ: في كُلِّ الأوقاتِ، مُجَدِّدُ الزَمانِ بِطَرَفَيْ نَهارِهِ ولَيْلِهِ، وقالَ قَتادَةُ، والطَبَرِيُّ وغَيْرُهُما: الإشارَةُ إلى صَلاتِي الغَداةُ والعَصْرُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ فَلا يَتَعَلَّقُ بِها مَن زَعَمَ أنَّ الصَلاةَ إنَّما فُرِضَتْ أوَّلًا صَلاتَيْنِ في طَرَفَيِ النَهارِ، والرِوايَةُ بِذَلِكَ ضَعِيفَةٌ، و"الأصِيلُ" مِنَ العَصْرِ إلى اللَيْلِ. ثُمَّ عَدَّدَ تَعالى عَلى عِبادِهِ نِعْمَتَهُ في الصَلاةِ عَلَيْهِمْ، وصَلاةُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى عَلى العَبِيدِ هي رَحْمَتُهُ لَهُمْ، وبَرَكَتُهُ لَدَيْهِمْ، ونَشْرُهُ إلَيْنا الجَمِيلُ، وصَلاةُ المَلائِكَةِ الدُعاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ، ورَوَتْ فِرْقَةٌ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ قِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ صَلاةُ اللهِ عَلى عِبادِهِ؟ (p-١٢٧)قالَ: "سَبُّوحٌ قُدُّوسٌ، رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"،» واخْتُلِفَ في تَأْوِيلٍ هَذا القَوْلِ، فَقِيلَ: إنَّ هَذا كُلَّهُ مِن كَلامِ اللهِ، وهي صِلاتُهُ عَلى عِبادِهِ، وقِيلَ: « "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ"» هو مِن كَلامِ مُحَمَّدٍ ﷺ يُقَدِّمُهُ بَيْنَ يَدَيْ نُقْطَةٍ بِاللَفْظِ الَّذِي هو صَلاةُ اللهِ، وهُوَ: « "رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي"،» وقَدَّمَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ هَذا مِن حَيْثُ فَهَمَ مِنَ السائِلِ أنَّهُ تَوَهَّمَ في صَلاةِ اللهِ تَعالى عَلى عِبادِهِ وجْهًا لا يَلِيقُ بِاللهِ تَعالى فَقَدَّمَ التَنْزِيهَ لِلَّهِ والتَعْظِيمَ بَيْنَ يَدَيْ أخْبارِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "لِيُخْرِجَكُمْ"﴾ أيْ: صَلاتَهُ وصَلاةَ مَلائِكَتِهِ لِكَيْ يَهْدِيَكم ويُنْقِذَكم مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى بِرَحْمَتِهِ بِالمُؤْمِنِينَ تَأْنِيسًا لَهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ"﴾ قِيلَ: يَوْمَ القِيامَةِ المُؤْمِنُ تُحْيِّيهِ المَلائِكَةُ بِالسَلامِ، ومَعْناهُ: السَلامَةُ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ. وقالَ قَتادَةُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يَوْمَ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا بِالسَلامِ، أيْ: سَلِمْنا وسَلِمْتَ مِن كُلِّ هَمٍّ وتَخَوُّفٍ. وقِيلَ: تُحْيِيهِمُ المَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ، وأمّا "الأجْرُ الكَرِيمُ" فَإنَّهُ جَنَّةُ الخُلْدِ في جِوارِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب