الباحث القرآني

(p-١١٣)قوله عزّ وجلّ: ﴿يا نِساءَ النَبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ وكانَ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسِيرًا﴾ ﴿وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صالِحًا نُؤْتِها أجْرَها مَرَّتَيْنِ وأعْتَدْنا لَها رِزْقًا كَرِيمًا﴾ ﴿يا نِساءَ النَبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا﴾ قالَ أبُو رافِعٍ: كانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ كَثِيرًا ما يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ وسُورَةَ الأحْزابِ في الصُبْحِ، فَكانَ إذا بَلَغَ ﴿ "يا نِساءَ النَبِيِّ"﴾ رَفَعَ بِها صَوْتَهُ، فَقِيلَ لَهُ، فَقالَ: أُذَكِّرُهُنَّ العَهْدَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَن يَأْتِ" بِياءٍ وتاءٍ، ﴿ "وَمَن يَقْنُتْ"﴾ بِياءٍ حَمْلًا عَلى اللَفْظِ، وقَرَأ عَمْرُو بْنُ فايِدٍ، الجَحْدَرِيُّ، ويَعْقُوبُ: "تَأْتِ" بِتاءَيْنِ و"تَقْنُتْ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ حَمْلًا عَلى المَعْنى. وقالَ قَوْمٌ: الفاحِشَةُ إذا ورَدَتْ مُعَرَّفَةً فَهي الزِنى واللِواطُ، وإذا ورَدَتْ مُنَكَّرَةً فَهي سائِرُ المَعاصِي وكُلُّ مُسْتَفْحَشٍ، وإذا ورَدَتْ مَنعُوتَةً بِالبَيانِ فَهي عُقُوقُ الزَوْجِ وفَسادُ عَشْرَتِهِ، ولِذَلِكَ يَصِفُها بِالبَيانِ إذْ لا يُمْكِنُ سَتْرُها، والزِنى وغَيْرُهُ هو مِمّا يَتَسَتِرُ بِهِ ولا يَكُونُ مُبَيَّنًا، ولا مَحالَةَ أنَّ الوَعِيدَ واقِعٌ عَلى ما خُفِيَ مِنهُ وما ظَهَرَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ قَوْلُهُ: ﴿بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ يَعُمُّ جَمِيعَ المَعاصِي، وكَذَلِكَ الفاحِشَةَ كَيْفَ ورَدَتْ. ولَمّا كانَ أزْواجُ النَبِيِّ ﷺ في مَهْبَطِ الوَحْيِ وفي مَنزِلِ أوامِرِ اللهِ ونَواهِيهِ قَوِيَ الأمْرُ عَلَيْهِنَّ ولَزِمَهُنَّ بِسَبَبِ مَكانَتِهِنَّ أكْثَرَ مِمّا يُلْزِمُ غَيْرَهُنَّ، فَضُوعِفَ لَهُنَّ الأجْرُ والعَذابُ، والإشارَةُ بِالفاحِشَةِ إلى الزِنى وغَيْرِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وشِبْلٌ، وعاصِمٌ: "مُبَيَّنَةً" بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وقَتادَةُ بِكَسْرِها وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُضاعِفُ" بِالياءِ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى اللهِ تَعالى، (p-١١٤)وَقَرَأ أبُو عَمْرُو فِيما رُوِيَ عنهُ: "نُضاعِفُ" بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ "العَذابَ" نَصْبًا، وهي قِراءَةُ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، وهَذِهِ مُفاعَلَةٌ مِن واحِدٍ كَطارَقْتُ النَعْلَ وعاقَبْتُ اللِصَّ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "يُضاعِفُ" بِالياءِ وعَيْنٍ مَفْتُوحَةٍ "العَذابَ" رَفَعًا، وقَرَأ أبُو عَمْرُو: "يُضَعِّفُ" بِتَشْدِيدِ العَيْنِ عَلى بِناءِ المُبالَغَةِ "العَذابُ" رَفَعًا، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وابْنُ كَثِيرٍ، وعِيسى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ: "نُضَعِّفُ" بِالنُونِ وكَسْرِ العَيْنِ المُشَدَّدَةِ "العَذابَ" نَصْبًا، وهي قِراءَةُ الجَحْدَرِيِّ. وقَوْلُهُ: ﴿ "ضِعْفَيْنِ"﴾ مَعْناهُ: أنْ يَكُونَ العَذابُ عَذابَيْنِ، أيْ: يُضافُ إلى عَذابِ سائِرِ الناسِ عَذابٌ آخَرُ مِثْلُهُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، وأبُو عَمْرُو - فِيما حَكى الطَبَرِيُّ عنهُما -: بَلْ يُضاعَفُ إلَيْهِ عَذابانِ مِثْلُهُ فَيَكُونُ ثَلاثَةَ أعْذِبَةً، وضَعَّفَهُ الطَبَرِيُّ، وكَذَلِكَ هو غَيْرُ صَحِيحٍ وإنْ كانَ لَهُ بِاللَفْظِ تَعَلُّقُ احْتِمالٍ، ويَكُونُ الأجْرُ مَرَّتَيْنِ مِمّا يُفْسِدُ هَذا القَوْلُ؛ لِأنَّ العَذابَ في الفاحِشَةِ بِإزاءِ الأجْرِ في الطاعَةِ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى تَضْعِيفِ العَذابِ. و"يَقْنُتْ" مَعْناهُ: يُطِيعُ ويَخْضَعُ بِالعُبُودِيَّةِ، قالَهُ الشَعْبِيُّ وقَتادَةُ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ: "يَقْنُتُ" بِالياءِ، و"تَعْمَلُ" بِالتاءِ، ﴿ "نُؤْتِها"﴾ بِالنُونِ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: أُسْنِدَ "يَقْنُتْ" إلى ضَمِيرٍ، فَلَمّا تَبَيَّنَ أنَّهُ المُؤَنَّثُ حُمِلَ فِيما "تَعْمَلُ" عَلى المَعْنى، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ كُلَّ الثَلاثَةِ المَواضِعِ بِالياءِ حَمْلًا في الأوَّلَيْنِ عَلى لَفْظِ "مَن"، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، وأبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ، وابْنِ وثّابٍ، وقَرَأ الأعْمَشُ أيْضًا: "فَسَوْفَ يُؤْتِها اللهُ أجَرَها". و"الاعْتادُ": التَيْسِيرُ والإعْدادُ، و"الرِزْقُ الكَرِيمُ": الجَنَّةُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في ذَلِكَ وعْدٌ دُنْياوِيُّ، أيْ أنَّ رِزْقَها في الدُنْيا عَلى اللهِ، وهو كَرِيمٌ مِن حَيْثُ ذَلِكَ هو حَلالٌ وقَصْدٌ وبِرِضى مِنَ اللهِ في نَيْلِهِ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: العَذابُ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ ضِعْفَيْنِ هو عَذابُ الدُنْيا ثُمَّ عَذابُ الآخِرَةِ، وكَذَلِكَ الأجْرُ، وهَذا ضَعِيفٌ اللهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ أزْواجُ النَبِيِّ ﷺ لا تَدْفَعُ عنهُنَّ حُدُودُ الدُنْيا عَذابَ الآخِرَةِ، عَلى ما هي حالُ الناسِ عَلَيْهِ، بِحُكْمِ حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ، وهَذا أمْرٌ لَمْ يُرْوَ في أزْواجِ النَبِيِّ ﷺ ولا حُفِظَ تَقَرُّرُهُ. (p-١١٥)ثُمَّ خاطَبَهُنَّ اللهُ تَعالى بِأنَّهُنَّ لِسِنٍّ كَأحَدٍ مِن نِساءِ عَصْرِهِنَّ فَما بَعْدُ، بَلْ هُنَّ أفْضَلُ بِشَرْطِ التَقْوى؛ لِما مَنَحَهُنَّ اللهُ مِن صُحْبَةِ الرَسُولِ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وعِظَمِ المَحَلِّ مِنهُ ونُزُولِ القُرْآنِ في حَقِّهِنَّ، وإنَّما خَصَّصَ النِساءَ لِأنَّ فِيمَن تَقَدَّمَ آسِيَةُ ومَرْيَمُ، فَتَأمَّلْهُ، وقَدْ أشارَ إلى هَذا قَتادَةُ. ثُمَّ نَهاهُنَّ اللهُ عَمّا كانَتِ الحالُ عَلَيْهِ في نِساءِ العَرَبِ مِن مُكالَمَةِ الرِجالِ بِرَخِيمِ الصَوْتِ. ﴿ "فَلا تَخْضَعْنَ"﴾ أيْ: ولا تَلِنَّ، وقَدْ يَكُونُ الخُضُوعُ في القَوْلِ في نَفْسِ الألْفاظِ ورُخامَتِها وهَيْئَتِها، وإنْ لَمْ يَكُنِ المَعْنى مُرِيبًا، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ لَفْظَةَ الخُضُوعِ بِمَعْنى المَيْلِ في الغَزَلِ، ومِنهُ قَوْلُ لَيْلى الأخْيِلِيَّةِ حِينَ قالَ لَها الحَجّاجُ: هَلْ رَأيْتِ قَطُّ مِن تَوْبَةَ شَيْئًا تُنْكِرِينَهُ؟ قالَتْ: لا واللهِ أيُّها الأمِيرُ؛ إلّا أنَّهُ أنْشَدَنِي يَوْمًا شِعْرًا ظَنَنْتُ مِنهُ أنَّهُ خَضَعَ لِبَعْضِ الأمْرِ، فَأنْشَدْتُهُ أنا: ؎ وذِي حاجَةٍ قُلْنا لَهُ لا تَبُحْ بِها ∗∗∗ فَلَيْسَ إلَيْها ما حَيِيتَ سَبِيلُ الحِكايَةُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الخُضُوعُ بِالقَوْلِ ما يُدْخِلُ في القُلُوبِ الغَزَلَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ "فَيَطْمَعَ"﴾ بِالنَصْبِ عَلى أنَّهُ نَصْبٌ بِالفاءِ في جَوابِ التَمَنِّيِ. وقَرَأ الأعْرَجُ، وأبانُ بْنُ عُثْمانَ: "فَيُطَمِّعِ" بِالجَزْمِ وكَسْرٍ لِلِالتِقاءِ، وهَذِهِ فاءُ عَطْفٍ (p-١١٦)مَحْضَةٍ، وكانَ النَهْيُ دُونَ جَوابٍ ظاهِرٍ، وقِراءَةُ الجُمْهُورِ أبْلَغُ؛ في النَهْيِ لِأنَّها تُعْطِي أنَّ الخُضُوعَ بِسَبَبِ الطَمَعِ، قالَ أبُو عَمْرُو الدانِي: قَرَأ الأعْرَجُ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: "فَيَطْمِعَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ المِيمِ. و"المَرَضُ" في هَذِهِ الآيَةِ، قالَ قَتادَةُ: هو النِفاقُ، وقالَ عِكْرِمَةُ: الفِسْقُ والغَزَلُ، وهَذا أصْوَبُ، ولَيْسَ لِلنِّفاقِ مَدْخَلٌ في هَذِهِ الآيَةِ، والقَوْلُ المَعْرُوفُ هو الصَوابُ الَّذِي لا تُنْكِرُهُ الشَرِيعَةُ ولا النُفُوسُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب