الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إنَّ اللهِ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ سَبَبَ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ اليَهُودَ قالَتْ: يا مُحَمَّدُ، كَيْفَ عَنَيْنا بِهَذا القَوْلِ ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَلِيلا﴾ [الإسراء: ٨٥] ونَحْنُ قَدْ أُوتِينا التَوْراةَ فِيها كَلامُ اللهِ وأحْكامُهُ، وعِنْدَكَ أنَّها تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقالَ لَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ: "التَوْراةُ قَلِيلٌ مِن كَثِيرٍ"، ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ،» وهَذا هو القَوْلُ الصَحِيحُ، والآيَةُ مَدَنِيَّةٌ. وقالَ قَوْمٌ: إنَّ (p-٥٨)سَبَبَ الآيَةِ أنَّ قُرَيْشًا قالَتْ: سَيَتِمُّ هَذا الكَلامُ لِمُحَمَّدٍ ويَنْحَسِرُ، فَنَزَلَتْ. وقالَ السُدَيِّ: قُرَيْشٌ: ما أكْثَرَ كَلامِ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والغَرَضُ مِنها الإعْلامُ بِكَثْرَةِ كَلِماتِ اللهِ تَعالى، وهي في نَفْسِها غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، وإنَّما قَرُبَ الأمْرُ عَلى أفْهامِ البَشَرِ بِما يَتَناهى؛ لِأنَّهُ غايَةُ ما يَعْهَدُهُ البَشَرُ مِنَ الكَثْرَةِ، وأيْضًا فَإنَّ الآيَةَ إنَّما تَضَمَّنَتْ أنَّ كَلِماتِ اللهِ تَعالى لَمْ تَكُنْ لِتَنْفَدَ، ولَيْسَ تَقْتَضِي الآيَةُ أنَّها تَنْفَدُ بِأكْثَرَ مِن هَذِهِ الأقْلامِ والبُحُورِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: المُرادُ بِالكَلِماتِ - واللهُ أعْلَمُ - ما في المَقْدُورِ دُونَ ما أخْرَجَ مِنهُ إلى الوُجُودِ. وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ (الكَلِماتِ) هُنا إشارَةٌ إلى المَعْلُوماتِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ يَنْحُو إلى الِاعْتِزالِ مِن حَيْثُ يَرَوْنَ في الكَلامِ أنَّهُ مَخْلُوقٌ، نَوَّرَ اللهُ تَعالى قُلُوبَنا بِهُداهُ. وقَرَأ أبُو عَمْرُو وحْدَهُ مِنَ السَبْعَةِ، وابْنُ أبِي إسْحاقٍ، وعِيسى: "والبَحْرَ" بِالنَصْبِ عَطْفًا عَلى "ما" الَّتِي هي اسْمُ "أنَّ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "والبَحْرُ" بِالرَفْعِ عَلى أنَّهُ ابْتِداءٌ، وخَبَرُهُ في الجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ: "هَذِهِ حالُهُ"، كَذا، قَدَّرَها سِيبَوَيْهِ، وقالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: هو عَطْفٌ عَلى "أنْ"؛ لِأنَّها في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ. وقَرَأ جُمْهُورُ (p-٥٩)الناسِ: ﴿ "يَمُدُّهُ"،﴾ مَن "مَدَّ"، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "يَمُدُّهُ" مِن "أمَدَّ"، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَدَّ الشَيْءُ بَعْضَهُ بَعْضًا، وأمَدَّ الشَيْءُ ما لَيْسَ مِنهُ، فَكَأنَّ الأبْحُرَ السَبْعَةَ المُتَوَهِّمَةَ لَيْسَتْ مِنَ البَحْرِ المَوْجُودِ. وقَرَأ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "والبَحْرُ مِدادُهُ"، وهو مَصْدَرٌ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وَبَحْرٌ يَمُدُّهُ"، وقَرَأ الحَسَنُ: "ما نَفِدَ كَلامُ اللهِ". ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أمْرَ الخَلْقِ والبَعْثِ أنَّهُ في الجَمِيعِ وفي شَخْصٍ واحِدٍ بِالسَواءِ؛ لِأنَّهُ كُلَّهُ "بِكُنْ فَيَكُونُ" قالَهُ مُجاهِدٌ، وحَكى النَقّاشُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وأبِي الأسْوَدِ وبَنِيهِ، ومُنَبِّهِ بْنِ الحَجّاجِ، وذَلِكَ «أنَّهم قالُوا: يا مُحَمَّدُ، إنّا نَرى الطِفْلَ يُخْلَقُ بِتَدْرِيجٍ وأنْتَ تَقُولُ: اللهُ يُعِيدُنا دُفْعَةً واحِدَةً، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِمْ.»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب