الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يا بُنَيَّ إنَّها إنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أو في السَماواتِ أو في الأرْضِ يَأْتِ بِها اللهُ إنْ اللهُ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ ﴿يا بُنَيَّ أقِمِ الصَلاةَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ ولا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحًا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ ﴿واقْصِدْ في مَشْيِكَ واغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ المَعْنى: وقالَ لُقْمانُ: يا بُنَيَّ، وهَذا القَوْلُ مِن لُقْمانَ إنَّما قَصَدَ بِهِ إعْلامَ ابْنِهِ بِقَدْرِ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، وهَذِهِ الغايَةُ الَّتِي أمْكَنَهُ أنْ يُفَهِّمَهُ؛ لِأنَّ الخَرْدَلَةَ يُقالُ: إنَّ الحِسَّ لا يُدْرِكُ لَها ثِقْلًا؛ إذْ لا تُرَجِّحُ مِيزانًا. وقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ أحاطَ بِها عِلْمًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِثْقالَ حَبَّةٍ﴾ عِبارَةٌ تَصْلُحُ لِلْجَواهِرِ، أيْ: قَدْرَ حَبَّةٍ، وتَصْلُحُ لِلْأعْمالِ، أيْ: ما تَزِنُهُ عَلى جِهَةِ المُماثَلَةِ قَدَرَ حَبَّةٍ، فَظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ أرادَ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ خَفِيًّا قَدْرَ حَبَّةٍ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما رُوِيَ مِن «أنَّ ابْنَ لُقْمانَ سَألَ أباهُ عَنِ الحَبَّةِ تَقَعُ في (p-٥٠)مِثْلِ البَحْرِ، يَعْلَمُها اللهُ؟ فَراجَعَهُ لُقْمانُ بِهَذِهِ الآيَةِ.» وذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ أرادَ الأعْمالَ والمَعاصِي والطاعاتِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِها اللهُ﴾ أيْ: لا يَفُوتُ. وبِهَذا المَعْنى يَتَحَصَّلُ في المَوْعِظَةِ تَرْجِيَةٌ وتَخْوِيفٌ. مُنْضافٌ ذَلِكَ إلى تَبْيِينِ قُدْرَةِ اللهِ تَعالى، وفي القَوْلِ الآخَرِ لَيْسَ تَرْجِيَةٌ ولا تَخْوِيفٌ. ومِمّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَن قالَ: "هِيَ مِنَ الجَواهِرِ" قِراءَةُ عَبْدِ الكَرِيمِ الجَزَرِيِّ: "فَتَكِنُّ" بِكَسْرِ الكافِ وشَدِّ النُونِ، مِنَ الكَنِّ الَّذِي هو الشَيْءُ المُغَطّى. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "إنْ تَكُ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ "مِثْقالَ" بِالنَصْبِ عَلى خَبَرِ "كانَ"، واسْمُها مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: مَسْألَتُكَ - عَلى ما رُوِيَ - أوِ: المَعْصِيَةُ أوِ الطاعَةُ عَلى القَوْلِ الثانِي، والضَمِيرُ في "إنَّها" ضَمِيرُ القِصَّةِ، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ بِالتاءِ "مِثْقالُ" بِالرَفْعِ عَلى اسْمِ "كانَ"، وهي التامَّةُ، وأسْنَدَ إلى المِثْقالِ فِعْلًا فِيهِ عَلامَةُ التَأْنِيثِ مِن حَيْثُ انْضافَ إلى مُؤَنَّثٍ هو مِنهُ، وهَذا كَقَوْلِ الشاعِرِ: مَشَيْنَ كَما اهْتَزَّتْ رِماحٌ تَسَفَّهَتْ... أعالِيها مَرُّ الرِياحِ النَواسِمِ وهِيَ قِراءَةُ الأعْرَجِ وأبِي جَعْفَرَ. وقَوْلُهُ: ﴿فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ﴾، قِيلَ: أرادَ الصَخْرَةَ الَّتِي عَلَيْها الأرْضُ والحُوتُ والماءُ، وهي عَلى ظَهْرِ مَلَكٍ، وقِيلَ: هي صَخْرَةٌ في الرِيحِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ، لا يُثْبِتُهُ سَنَدٌ، وإنَّما مَعْنى الكَلامِ المُبالَغَةُ والِانْتِهاءُ في التَفْهِيمِ، أيْ: أنَّ قُدْرَتَهُ مِثالُ ما يَكُونُ في تَضاعِيفِ صَخْرَةٍ، وما يَكُونُ في السَماءِ وفي الأرْضِ. وقَرَأ قَتادَةُ: "فَتَكِنْ" بِكَسْرِ الكافِ والتَخْفِيفِ: مِن: وكَنَ يَكِنُ، وتَقَدَّمَتْ قِراءَةُ عَبْدِ الكَرِيمِ "فَتَكِنُّ". (p-٥١)وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِها اللهُ﴾ إنْ أرادَ الجَوْهَرَ فالمَعْنى: يَأْتِ بِها إنِ احْتِيجَ إلى ذَلِكَ، أو كانَتْ رِزْقًا ونَحْوَ هَذا، وإنْ أرادَ الأعْمالَ فَمَعْناهُ: يَأْتِ بِذِكْرِها وحِفْظِها لِيُجازِي عَلَيْها بِثَوابٍ أو عِقابٍ. و"لَطِيفٌ خَبِيرٌ" صِفَتانِ لائِقَتانِ بِإظْهارِ غَرائِبِ القُدْرَةِ. ثُمَّ وصّى ابْنَهُ بِعُظْمِ الطاعاتِ، وهي الصَلاةُ والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وهَذا إنَّما يُرِيدُ بِهِ بَعْدَ أنْ يَمْتَثِلَ هو في يَقِينِهِ، ويَزْدَجِرَ عَنِ المُنْكَرِ، وهُنا هي الطاعاتُ والفَضائِلُ أجْمَعُ. وقَوْلُهُ: ﴿واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ﴾ يَقْتَضِي حَضًّا عَلى تَغْيِيرِ المُنْكِرِ وإنْ نالَكَ ضَرَرٌ، فَهو إشْعارٌ بِأنَّ المُغِيرَ يُؤْذى أحْيانًا، وهَذا القَدْرُ هو عَلى جِهَةِ النَدْبِ والقُوَّةِ في ذاتِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وأمّا عَلى اللُزُومِ فَلا. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ مَعْناهُ: مِمّا عَزْمَهُ اللهُ وأمَرَ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ ذَلِكَ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ وعَزائِمِ أهْلِ الحَزْمِ والسالِكِينَ طَرِيقَ النَجاةِ، والأوَّلُ أصْوَبُ، وبِكِلَيْهِما قالَتْ طائِفَةٌ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرُو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "وَلا تُصاعِرْ". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو جَعْفَرٍ: "وَلا تُصَعِّرْ". وقَرَأ الجَحْدَرَيُّ: "وَلا تُصْعِرْ" بِسُكُونِ الصادِ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ. والصَعَرُ: المَيْلُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْرابِيِّ: "وَقَدْ أقامَ الدَهْرُ صَعْرِيِ بَعْدَ أنْ أقَمْتُ صَعْرَهُ"، ومِنهُ قَوْلُ عَمْرُو بْنُ حُنَيِّ التَغْلَبِيِّ: ؎ وكُنّا إذا الجَبّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ∗∗∗ أقَمْنا لَهُ مِن مَيْلِهِ فَتَقَوَّمِ (p-٥٢)أيْ: فَتَقَوَّمْ أنْتَ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَهَ: "فَتَقَوَمّا" وهو خَطَأٌ؛ لِأنَّ قافِيَةَ الشِعْرِ مَخْفُوضَةٌ، وفي بَيْتٍ آخَرَ: ؎ أقَمْنا لَهُ مِن خَدِّهِ المُتَصَعِّرِ فالمَعْنى: ولا تَمِلْ خَدَّكَ لِلنّاسِ كِبَرًا عَلَيْهِمْ، وإعْجابًا، واحْتِقارًا لَهُمْ، وهَذا هو تَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وجَماعَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أيْضًا الضِدَّ، أيْ: ولا سُؤالًا ولا ضَراعَةً بِالفَقْرِ، والأوَّلُ أظْهَرُ بِدَلالَةِ ذِكْرِ الِاخْتِيالِ والفَخْرِ بَعْدُ، وقالَ مُجاهِدٌ: "وَلا تُصَعِّرْ" أرادَ بِهِ الإعْراضَ وهَجْرِهِ بِسَبَبِ أخِيهِ. و"المَدْحُ": النَشاطُ، و"المَشْيُ مَرَحًا" هو في غَيْرِ شُغْلٍ ولِغَيْرِ حاجَةٍ، وأهْلُ هَذا الخُلُقِ مُلازِمُونَ لِلْفَخْرِ والخُيَلاءِ، فالمَرِحُ مُخْتالٌ في مِشْيَتِهِ، وقَدْ قالَ ﷺ: « "مَن جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءُ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ"،» وقالَ: « "بَيْنَما رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ (p-٥٣)خُيَلاءَ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهو يَتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ"،» وقالَ مُجاهِدٌ: الفَخُورُ هو الَّذِي يُعَدِّدُ ما أعْطى ولا يَشْكُرُ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى، قالَ: وفي اللَفْظِ الفَخْرُ بِالنَسَبِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ولِما نَهاهُ عَنِ الخُلُقِ الذَمِيمِ رَسَمَ لَهُ الخُلُقَ الكَرِيمَ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَسْتَعْمِلَهُ، مِنَ القَصْدِ في المَشْيِ، وهو أنْ لا يَتَخَرَّقُ في إسْراعٍ، ولا يُوائِي في إبْطاءٍ وتَضاؤُلٍ، عَلى نَحْوِ ما قالَ القائِلُ: ؎ كُلُّنا يَمْشِي رُوَيْدْ ∗∗∗ ∗∗∗ كُلُّنا يَطْلُبُ صَيْدْ غَيْرَ عَمْرُو بْنِ عُبَيْدِ وألّا يَمْشِيَ مُخْتالًا مُتَبَخْتِرًا، ونَحْوَ هَذا مِمّا لَيْسَ في قَصْدٍ. وغَضُّ الصَوْتِ أوفَرُ لِلْمُتَكَلِّمِ وأبْسَطُ لِنَفْسِ السامِعِ وفَهْمِهِ. ثُمَّ عارَضَ مُمَثِّلًا بِصَوْتِ الحَمِيرِ عَلى جِهَةِ التَشْبِيهِ، أيْ: تِلْكَ هي الَّتِي بَعُدَتْ عَنِ الغَضِّ فَهي أنْكَرُ الأصْواتِ، فَكَذَلِكَ كَلُّ ما بَعُدَ عَنِ الغَضِّ مِن أصْواتِ البَشَرِ فَهو في طَرِيقِ تِلْكَ، وفي الحَدِيثِ: « "إذا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحَمِيرِ فَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الشَيْطانِ، فَإنَّها رَأتْ شَيْطانًا"،» وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيِّ: صِياحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحٌ إلّا نَهِيقَ الحَمِيرِ. وقالَ عَطاءُ: نَهِيقُ الحَمِيرِ دُعاءٌ عَلى الظَلَمَةِ. و"أنْكَرَ" مَعْناهُ أقْبَحُ وأوحَشُ، و"أنْكَرَ" عِبارَةٌ تَجْمَعُ المَذامَّ اللاحِقَةَ لِلصَّوْتِ الجَهِيرِ، وكانَتِ العَرَبُ تَفْتَخِرُ بِجَهارَةِ الصَوْتِ الجَهِيرِ، عَلى خُلُقِ الجاهِلِيَّةِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٥٤) ؎ جَهِيرُ الكَلامِ جَهِيرُ العُطاسِ ∗∗∗ ∗∗∗ جَهِيرُ الرُواءِ جَهِيرُ النَعَمِ ؎ ويَعْدُو عَلى الأيْنِ عَدْوَ الظَلِيمِ ∗∗∗ ∗∗∗ ويَعْلُو الرِجالَ بِخُلُقٍ عَمَمْ فَنَهى اللهُ تَعالى عن هَذِهِ الخُلُقِ الجاهِلِيَّةِ. وقَوْلُهُ: ﴿لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ أرادَ بِالصَوْتِ اسْمَ الجِنْسِ، ولِذَلِكَ جاءَ مُفْرَدًا. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "إنَّ أنْكَرَ الأصْواتِ أصْواتُ الحَمِيرِ" بِالجَمْعِ في الثانِي دُونَ لامٍ. والغَضُّ رَدُّ طَفَحانِ الشَيْءِ، كالنَظَرِ، وزِمامِ الناقَةِ، والصَوْتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب