الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ أنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ومَن يَشْكُرْ فَإنَّما يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ ﴿وَإذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وهو يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لُقْمانُ رَجُلٌ حَكِيمٌ بِحِكْمَةِ اللهِ تَعالى، وهي الصَوابُ في المُعْتَقَداتِ، والفِقْهُ في الدِينِ والعَمَلِ، واخْتِلَفَ، هَلْ هو نَبِيٌّ مَعَ ذَلِكَ أو رَجُلٌ صالِحٌ فَقَطْ؟ فَقالَ بِنُبُوَّتِهِ عِكْرِمَةُ والشَعْبِيُّ، وقالَ بِصَلاحِهِ فَقَطْ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ، وقالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: سَمِعَتِ النَبِيَّ ﷺ يَقُولُ: « "لَمْ يَكُنْ لُقْمانُ نَبِيًّا، ولَكِنْ كانَ عَبْدًا كَثِيرَ التَفْكِيرِ، حَسَنَ اليَقِينِ، أحَبَّ اللهَ فَأحَبَّهُ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بِالحِكْمَةِ، وخَيَّرَهُ في أنْ يَجْعَلَهُ خَلِيفَةً يَحْكُمُ بِالحَقِّ، فَقالَ: يا رَبِّ إنْ خَيَّرَتْنِي قَبِلْتُ العافِيَةَ وتَرَكْتُ البَلاءَ، وإنْ عَزَمَتْ عَلَيَّ فَسَمْعًا وطاعَةً فَإنَّكَ سَتَعْصِمُنِي"،» وكانَ قاضِيًا في بَنِي إسْرائِيلَ، نُوبِيًّا أسْوَدَ (p-٤٥)مُشَقَّقَ الرِجْلَيْنِ ذا مَشافِرَ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ لَهُ رَجُلٌ كانَ قَدْ رَعى مَعَهُ الغَنَمَ: ما بَلَغَ بِكَ يا لُقْمانُ ما أرى؟ قالَ: صِدْقُ الحَدِيثِ والصَمْتُ عَمّا لا يَعْنِينِي، وقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: كانَ مَن سُودانِ مِصْرَ، مِنَ النُوبَةِ، وقالَ خالِدُ بْنُ الرَبِيعِ: كانَ نَجّارًا، وقِيلَ: كانَ خَيّاطًا، وقِيلَ: كانَ راعِيًا. وحِكَمُ لُقْمانَ كَثِيرَةٌ مَأْثُورَةٌ، قِيلَ لَهُ: وأيُّ الناسِ شَرٌّ؟ قالَ: الَّذِي لا يُبالِي إنْ رَآهُ الناسُ مُسِيئًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنِ اشْكُرْ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ "أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ: بِأنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةُ، أيْ: كانَتْ حِكْمَتُهُ دائِرَةً عَلى الشُكْرِ لِلَّهِ تَعالى ومَعانِيهِ. وجَمِيعُ العِباداتِ والمُعْتَقَداتِ داخِلَةٌ في شُكْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ الشاكِرَ حَظُّهُ عائِدٌ عَلَيْهِ، وهو المُنْتَفِعُ بِذَلِكَ، واللهُ تَعالى غَنِيٌّ عَنِ الشُكْرِ، فَلا يَنْفَعُهُ شُكْرُ العِبادِ، حَمِيدٌ في نَفْسِهِ، فَلا يَضُرُّهُ كُفْرُ الكافِرِينَ. و"حَمِيدٌ" بِمَعْنى: مَحْمُودٌ، أيْ: هو مُسْتَحَقٌّ ذَلِكَ بِصِفاتِهِ وذاتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَإذْ قالَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: واذْكُرْ إذْ قالَ، واخْتَصَرَ ذَلِكَ لِدَلالَةِ المُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، واسْمُ ابْنِهِ تارانُ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمٍ: "يا بُنَيِّ" بِالشَدِّ والكَسْرِ في الياءِ، في الثَلاثَةِ، عَلى إدْغامِ إحْدى الياءَيْنِ في الأُخْرى، وقَرَأ حَفْصٌ، والمُفَضَّلُ عن عاصِمٍ: "يا بُنَيَّ" بِالشَدِّ (p-٤٦)والفَتْحِ في الثَلاثَةِ، عَلى قَوْلِكَ: يا بُنَيّا، ويا غُلامًا. وقَرَأ ابْنُ أبِي بُرَّةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "يا بُنَيْ" بِسُكُونِ الياءِ، و"يا بُنَيِّ إنَّها" بِكَسْرِ الياءِ، و"يا بُنَيَّ أقِمِ الصَلاةَ" بِفَتْحِ الياءِ، ورَوى عنهُ قُنْبُلُ بِالسُكُونِ في الأُولى والثالِثَةَ، وبِكَسْرِ الوُسْطى. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أنَّهُ مِن كَلامِ لُقْمانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مِنَ اللهِ تَعالى مُنْقَطِعًا مِن كَلامِ لُقْمانَ، مُتَّصِلًا بِهِ في تَأْكِيدِ المَعْنى، ويُؤَيِّدُ هَذا الحَدِيثُ المَأْثُورُ: « "أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] أشْفَقَ أصْحابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وقالُوا: أيُّنا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى: ﴿إنَّ الشِرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، فَسَكَنَ إشْفاقُهُمْ".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنَّما يَسْكُنُ إشْفاقُهم بِأنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرًا مِنَ اللهِ تَعالى، وقَدْ يَسْكُنُ الإشْفاقُ بِأنْ يَذْكُرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ عن عَبْدٍ قَدْ وصَفَهُ بِالحِكْمَةِ والسِدادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب