الباحث القرآني

(p-٥)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الرُومِ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ، ولا خِلافَ أحْفَظُهُ في ذَلِكَ. قوله عزّ وجلّ: ﴿الم﴾ ﴿غُلِبَتِ الرُومُ﴾ ﴿فِي أدْنى الأرْضِ وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ ويَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ﴾ ﴿بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَن يَشاءُ وهو العَزِيزُ الرَحِيمُ﴾ ﴿وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهِ وعْدَهُ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الحُرُوفِ الَّتِي في أوائِلِ السُوَرِ بِما فِيهِ كِفايَةٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "غُلِبَتْ" بِضَمِّ الغَيْنِ. وقالُوا: مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ طَرَأ بِمَكَّةَ أنَّ المَلِكَ كِسْرى هَزَمَ جَيْشَ مَلِكِ الرُومِ، قالَ مُجاهِدٌ: في الجَزِيرَةِ، وهو مَوْضِعٌ بَيْنَ العِراقِ والشامِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: بِأذْرِعاتَ، وهي بَيْنَ بِلادِ العَرَبِ والشامِ، وقالَ مُقاتِلٌ: بِفِلَسْطِينَ والأُرْدُنِّ، فَلَمّا طَرَأ ذَلِكَ سُرَّ الكُفّارُ، فَبَشَّرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عِبادَهُ بِأنَّ الرُومَ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ، وتَكُونَ الدَوْلَةُ لَهم في الحَرْبِ. وقَرَأ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ ومُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "غَلَبَتْ" بِفَتْحِ الغَيْنِ واللامِ، وتَأْوِيلُ ذَلِكَ أنَّ الَّذِي طَرَأ يَوْمَ بَدْرٍ إنَّما كانَ أنَّ الرُومَ غَلَبَتْ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ، وسُرَّ المُسْلِمُونَ، فَبَشَّرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى عِبادَهُ بِأنَّهم سَيَغْلِبُونَ أيْضًا في بِضْعِ سِنِينَ، ذَكَرَ هَذا (p-٦)التَأْوِيلَ أبُو حاتِمٍ. والرِوايَةُ الأولى، والقِراءَةُ بِضَمِّ الغَيْنِ أصَحُّ. وأجْمَعَ الناسُ عَلى ﴿ "سَيَغْلِبُونَ"﴾ أنَّهُ بِفَتْحِ الياءِ، يُرِيدُ بِهِ الرُومَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ قَرَأ أيْضًا: "سَيُغْلَبُونَ" بِضَمِّ الياءِ، وفي هَذِهِ القِراءَةِ قَلْبٌ لِلْمَعْنى الَّذِي تَظاهَرَتْ بِهِ الرِواياتُ. و"أدْنى الأرْضِ" مَعْناهُ: أقْرَبُ الأرْضِ، فَإنْ كانَتِ الوَقْعَةُ في أذْرِعاتَ فَهي مِن أدْنى الأرْضِ بِالقِياسِ إلى مَكَّةَ، وهي الَّتِي ذَكَرَ امْرُؤُ القَيْسِ في قَوْلِهِ: ؎ تَنَوَّرْتُها مِن أذَرِعاتَ وأهْلُها ∗∗∗ بِيَثْرِبَ أدْنى دارِها نَظَرٌ عالِي وإنْ كانَتِ الوَقْعَةُ بِالجَزِيرَةِ فَهي أدْنى بِالقِياسِ إلى أرْضِ كِسْرى، وإنْ كانَتْ بِالأُرْدُنِّ فَهي أدْنى إلى أرْضِ الرُومِ، قالَ أبُو حاتِمٍ، وقُرِئَ "أدانِيِّ الأرْضِ"، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: ﴿ "غَلَبِهِمْ"﴾ بِفَتْحِ اللامِ، كَما يُقالُ: "أحْلِبُ حَلَبًا لَكَ شَطْرُهُ"، وقَرَأ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما بِسُكُونِها، وهو مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلى المَفْعُولِ. ورُوِيَ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - وغَيْرِهِ أنَّ الكَفّارَ لَمّا (p-٧)فَرِحُوا بِمَكَّةَ بِغَلَبِ الرُومِ، بَشَّرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ والمُؤْمِنِينَ بِأنَّ الرُومَ سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ، أيْ: مِنَ الثَلاثَةِ إلى التِسْعَةِ، عَلى مَشْهُورِ قَوْلِ اللُغَوِيِّينَ، كَأنَّهُ تَبْضِيعُ العَشْرَةِ، أيْ: تَقْطِيعُها. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الثَلاثِ إلى الخَمْسِ، وقَوْلُهُ مَرْدُودٌ، فَلَمّا بَشَّرَهم بِذَلِكَ «خَرَجَ أبُو بَكْرٍ الصَدِيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ إلى المَسْجِدِ، فَقالَ لَهُمْ: "أسَرَّكم أنْ غُلِبَتِ الرُومُ؟ فَإنَّ نَبِيَّنا أخْبَرَنا عَنِ اللهِ تَعالى أنَّهم سَيَغْلِبُونَ في بِضْعِ سِنِينَ"، فَقالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وأُمَيَّةُ أخُوهُ - وقِيلَ: أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ -: تَعالَ يا أبا فَصِيلٍ - يُعَرِّضُونَ بِكُنْيَتِهِ بِالبَكْرِ - فَلْنَتَناخَبْ - أيْ نَتَراهَنْ - في ذَلِكَ، فَراهَنَهم أبُو بَكْرٍ، - قالَ قَتادَةُ: وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يُحَرَّمَ القِمارُ - وجَعَلَ الرَهْنَ خَمْسَ قَلائِصٍ، والأجْلَ ثَلاثَ سِنِينَ، فَأخْبَرَ النَبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقالَ لَهُ: إنَّ البِضْعَ إلى التِسْعِ، ولَكِنِ ارْجِعْ فَزِدْهم في الرِهانِ واسْتَزِدْهم في الأجَلِ، فَفَعَلَ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَجَعَلُوا القَلائِصَ مِائَةً والأجْلَ تِسْعَةَ أعْوامٍ، فَغَلَبَتِ الرُومُ في أثْناءِ الأجَلِ،» فَرُوِيَ عن أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ إيقاعَ الرُومِ بِالفَرَسِ كانَ يَوْمَ بَدْرٍ، ورُوِيَ أنَّ ذَلِكَ كانَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةَ، وأنَّ الخَبَرَ بِذَلِكَ وصْلَ يَوْمِ بَيْعَةِ الرِضْوانِ، رُوِيَ نَحْوُهُ عن قَتادَةَ، وفي كِلا اليَوْمَيْنِ كانَ نَصْرٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِلْمُؤْمِنِينَ. وذَكَرَ الناسُ أنَّ سَبَبَ سُرُورِ المُسْلِمِينَ بِغَلَبَةِ الرُومِ وهَمِّهِمْ أنْ تَغْلِبَ، وكَوْنِ المُشْرِكِينَ مِن قُرَيْشٍ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، إنَّما هو أنَّ الرُومَ أهْلُ كُتّابٍ كالمُسْلِمِينَ، والفُرْسَ أهْلُ الأوثانِ أو نَحْوِهِ مِن عِبادَةِ النارِ كَكُفّارِ قُرَيْشٍ والعَرَبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُشْبِهُ أنْ يُعَلَّلَ ذَلِكَ بِما تَقْتَضِيهِ الفِطَرُ مِن مَحَبَّةِ أنْ يَغْلِبَ العَدُوُّ الأصْغَرُ: لِأنَّهُ أيْسَرُ مُؤَوِّنَةٍ، ومَتى غَلَبَ الأكْبَرُ كَثُرَ الخَوْفُ مِنهُ، فَتَأمَّلْ هَذا المَعْنى مَعَ ما كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تَرَجّاهُ مِن ظُهُورِ دِينِهِ وشَرْعِ اللهِ تَعالى عَزَّ وجَلَّ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ، وغَلَبَتِهِ عَلى الأُمَمِ، وإرادَةِ كَفّارِ مَكَّةَ أنْ يَرْمِيَهُ اللهُ بِمَلِكٍ يَسْتَأْصِلُهُ ويُرِيحُهم مِنهُ. و"سِنِينَ" يُجْمَعُ كَجَمْعِ مَن يَعْقِلُ عِوَضًا مِنَ النَقْصِ الَّذِي في واحِدِهِ؛ لِأنَّ أصْلَ (p-٨)سَنَةٍ: سَنْهَةٌ، أو سَنْوَةٌ، وكُسِرَتِ السِينُ مِنهُ دَلالَةً عَلى أنَّ جَمْعَهُ خارِجٌ عن قِياسِهِ ونَمَطَهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾، أخْبَرَ تَبارَكَ وتَعالى بِانْفِرادِهِ بِالقُدْرَةِ، وأنَّ ما في العالَمِ مِن غَلَبَةٍ وغَيْرِها إنَّما هي مِنهُ وبِإرادَتِهِ وقُدْرَتِهِ، فَقالَ: "لِلَّهِ الأمْرُ"، أيْ: إنْفاذُ الأحْكامِ، ﴿مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ هَذِهِ الغَلَبَةِ ومِن بَعْدِها، و"قَبْلُ" و"بَعْدُ" ظَرْفانِ بُنِيا عَلى الضَمِّ؛ لِأنَّهُما تَعَرَّفا بِحَذْفِ ما أُضِيفَ إلَيْهِما وصارا مُتَضَمِّنَيْنِ ما حُذِفَ، فَخالَفا مُعْرَبَ الأسْماءِ وأشْبَها الحُرُوفَ في التَضْمِينِ فَبُنِيا، وخُصّا بِالضَمِّ لِشَبَهِهِما بِالمُنادى المُفْرَدِ، في أنَّهُ إذا نُكِّرَ أو أُضِيفَ زالَ بِناؤُهُ، وكَذَلِكَ هُما، فَضُمّا كَما أنَّ المُنادى مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ، وكَذَلِكَ قِيلَ في ذَلِكَ أيْضًا: إنَّ الفَتْحَ تَعَذَّرَ فِيهِما لِأنَّهُ حالُهُما في إظْهارِ ما أُضِيفا إلَيْهِ، وتَعَذَّرَ الكَسْرُ لِأنَّهُ حالُهُما عِنْدَ إضافَتِهِما إلى المُتَكَلِّمِ، وتَعَذَّرَ السُكُونُ لِأنَّ ما قَبْلَ أحَدِهِما ساكِنٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا الضَمُّ فَبُنِيا عَلَيْهِ. ومِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: مِن قَبْلٍ ومِن بَعْدٍ بِالخَفْضِ والتَنْوِينِ، قالَ الفَرّاءُ: "وَيَجُوزُ تَرْكُ التَنْوِينِ فَيَبْقى كَما هو في الإضافَةِ وإنْ حُذِفَ المُضافُ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَيَوْمَئِذٍ"﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى "القَبْلِ والبَعْدِ"، كَأنَّهُ حَصَرَ الأزْمِنَةَ الثَلاثَةَ: الماضِي والمُسْتَقْبَلَ والحالَ، ثُمَّ ابْتَدَأ الإخْبارَ بِفَرَحِ المُؤْمِنِينَ بِالنَصْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ تَمَّ في قَوْلِهِ: "بَعْدُ" ثُمَّ اسْتَأْنَفَ عَطْفَ جُمْلَةٍ أخْبَرَ فِيها أنَّ يَوْمَ غَلَبَتِ الرُومُ الفَرَسَ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ، وعَلى هَذا الِاحْتِمالِ مَشى المُفَسِّرُونَ. والنَصْرُ الَّذِي يَفْرَحُ بِهِ المُؤْمِنُونَ يُحْتَمَلُ أنْ يُشارَ فِيهِ إلى نَصْرِ الرُومِ عَلى (p-٩)فارِسٍ، وهي نُصْرَةُ الإسْلامِ بِحُكْمِ السِنِينَ الَّتِي قَدْ ذَكَرْناها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشارَ فِيهِ إلى نَصْرٍ يَخُصُّ المُسْلِمِينَ عَلى عَدُوِّهِمْ، وهَذا أيْضًا غَيْبٌ أخْبَرَ بِهِ وأخْرَجَهُ الوُجُودَ إمّا يَوْمَ بَدْرٍ، وإمّا بِبَيْعَةِ الرِضْوانِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشارَ بِهِ إلى فَرَحِ المُسْلِمِينَ بِنَصْرِ اللهِ تَعالى إيّاهم في أنْ صَدَقَ ما قالَ نَبِيُّهم عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ في أنَّ الرُومَ سَتَغْلِبُ فارِسَ، فَإنَّ هَذا ضَرْبٌ مِنَ النَصْرِ عَظِيمٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "وَعْدَ اللهِ"﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ يُرِيدُ الكُفّارَ مِن قُرَيْشٍ والعَرَبَ، أيْ: لا يَعْلَمُونَ أنَّ الأُمُورَ مِن عِنْدِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، وأنَّ وعْدَهُ لا يَتَخَلَّفُ، وأنَّ ما يُورِدُهُ نَبِيُّهُ- عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - حَقٌّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ هو عُمْدَةُ ما قِيلَ. وقَدْ حَكى الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ رِواياتٍ يَرُدُّها النَظَرُ أوَّلَ قَوْلٍ، مِن ذَلِكَ أنَّ بَعْضَهم قالَ: إنَّما نَزَلَتْ ﴿وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهِ وعْدَهُ﴾ بَعْدَ غَلَبَةِ الرُومِ لِفارِسَ ووُصُولِ الخَبَرِ بِذَلِكَ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، والسُورَةُ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعٍ، ونَحْوَ هَذا مِنَ الأقْوالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب