الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أهْواءَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللهُ وما لَهم مَن ناصِرِينَ﴾ ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ الناسَ لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿مُنِيبِينَ إلَيْهِ واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصَلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾
الإضْرابُ بِـ"بَلْ" هو عَمّا تَضَمَّنَهُ مَعْنى الآيَةِ الأُولى، كَأنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ لَهم حُجَّةٌ ولا مَعْذِرَةٌ فِيما فَعَلُوا مِن تَشْرِيكِهِمْ مَعَ اللهِ تَعالى، بَلِ اتَّبَعُوا أهْواءَهم جَهالَةً وشَهْوَةً وقَصْدًا لِأمْرِ دُنْياهم. ثُمَّ قَرَّرَ - عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ لَهم - عَلى مَن يَهْدِي إذا أضَلَّ اللهُ؟ أيْ: لا هادِيَ لِأهْلِ هَذِهِ الحالِ، ثُمَّ أخْبَرَ أنَّهُ لا ناصِرَ لَهم.
ثُمَّ أمَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِإقامَةِ وجْهِهِ لِلدِّينِ المُسْتَقِيمِ، وهو دِينُ الإسْلامِ، وإقامَةُ الوَجْهِ هي تَقْوِيمُ المَقْصِدِ والقُوَّةِ عَلى الجِدِّ في أعْمالِ الدِينِ، وذِكْرُ الوَجْهِ لِأنَّهُ جامِعُ حَواسِّ الإنْسانِ وأشْرَفُهُ، و"حَنِيفًا" مَعْناهُ: مُعْتَدِلًا مائِلًا عن جَمِيعِ الأدْيانِ المُحَرَّفَةِ المَنسُوخَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْها﴾ نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿صِبْغَةَ اللهِ﴾ [البقرة: ١٣٨]، وقِيلَ: هو نَصْبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: اتَّبِعْ والزَمْ فِطْرَةَ اللهِ تَعالى، واخْتَلَفَ الناسُ في الفِطْرَةِ هاهُنا، فَذَكَرَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ في ذَلِكَ جَمِيعَ ما يُمْكِنُ أنْ تُصْرَفَ هَذِهِ اللَفْظَةُ عَلَيْهِ، وفي بَعْضِ ذَلِكَ قَلَقٌ، والَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَفْظَةِ (p-٢٤)أنَّها الخِلْقَةُ والهَيْئَةُ في نَفْسِ الطِفْلِ الَّتِي هي مُعَدَّةٌ مُهَيَّأةٌ لِأنْ يُمَيِّزَ بِها مَصْنُوعاتِ اللهِ تَعالى، ويَسْتَدِلَّ بِها عَلى رَبِّهِ جَلَّ وعَلا ويَعْرِفَ شَرائِعَهُ، ويُؤْمِنَ بِهِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ الَّذِي هو الحَنِيفُ وهو فِطْرَةُ اللهِ الَّذِي عَلى الإعْدادِ لَهُ فَطَرَ البَشَرَ، لَكِنْ تَعْرِضُهُمُ العَوارِضُ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، فَأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أو يُنَصِّرانِهِ..." الحَدِيثُ،» فَذِكْرُ الأبَوَيْنِ إنَّما هو مِثالٌ لِلْعَوارِضِ الَّتِي هي كَثِيرَةٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يُرِيدَ بِها هَذِهِ الفِطْرَةَ المَذْكُورَةَ، أيِ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الفِطْرَةَ لا تَبْدِيلَ لَها مِن جِهَةِ الخالِقِ، ولا يَجِيءُ الأمْرُ عَلى خِلافِها بِوَجْهٍ، والآخَرانِ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ إنْحاءً عَلى الكَفَرَةِ، اعْتَرَضَ بِهِ أثْناءَ الكَلامِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: أقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ الَّذِي مِن صِفَتِهِ كَذا وكَذا، فَإنَّ هَؤُلاءِ الكُفّارَ قَدْ خَلَقَ اللهُ لَهُمُ الكُفْرَ، ولا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ، أيْ إنَّهم لا يُفْلِحُونَ. وقالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى: لا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللهِ، وهو قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ، والضَحّاكِ، وابْنِ زَيْدٍ، والنَخَعِيِّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا مَعْناهُ: لا تَبْدِيلَ لِلْمُعْتَقَداتِ الَّتِي هي في الدِينِ الحَنِيفِ، فَإنَّ كُلَّ شَرِيعَةٍ هي عَقائِدُها.
وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الآيَةِ إلى تَأْوِيلاتٍ: مِنها قَوْلُ عِكْرِمَةَ - وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما -: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ مَعْناهُ: النَهْيُ عن خِصاءِ الفُحُولِ مِنَ الحَيَوانِ. ومِنها قَوْلُ بَعْضِهِمْ في الفِطْرَةِ: إنَّها المِلَّةُ. عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ في الفِطْرَةِ: (p-٢٥)الدِينُ. وتَأوَّلَ قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿ "فَطَرَ الناسَ"﴾ عَلى الخُصُوصِ، أيِ: المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: الفِطْرَةُ هو العَهْدُ الَّذِي أخَذَهُ اللهُ تَعالى عَلى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِينَ أخْرَجَهم نَسَمًا مِن ظَهْرِهِ، ونَحْوُهُ حَدِيثُ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ حِينَ مَرَّ بِهِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَقالَ: يا مُعاذُ، ما قِوامُ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قالَ: الإخْلاصُ، وهو الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللهُ الناسَ عَلَيْها، والصَلاةُ وهي الدِينُ، والطاعَةُ وهي العِصْمَةُ، فَقالَ عُمْرُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: صَدَقْتَ.
و"القَيِّمُ" بِناءُ مُبالَغَةٍ مِنَ القِيامِ الَّذِي هو بِمَعْنى الِاسْتِقامَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ "مُنِيبِينَ"﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن قَوْلِهِ: ﴿فَطَرَ الناسَ﴾، لا سِيَّما عَلى رَأْيِ مَن رَأى أنَّ ذَلِكَ خُصُوصٌ في المُؤْمِنِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن قَوْلِهِ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ﴾، وجَمَعَهُ لِأنَّ الخِطابَ بِإقامَةِ الوَجْهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِأُمَّتِهِ، نَظِيرُها قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿يا أيُّها النَبِيُّ إذا طَلَّقْتُمُ النِساءَ﴾ [الطلاق: ١] و"المُنِيبُ": الراجِعُ المُخْلِصُ المائِلُ إلى جِهَةِ ما تَوَدُّهُ نَفْسُهُ، و"المُشْرِكُونَ" المُشارُ إلَيْهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ هُمُ اليَهُودُ والنَصارى، قالَهُ قَتادَةُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ اليَهُودُ، وقالَتْ عائِشَةُ وأبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي في أهْلِ القِبْلَةِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَلَفْظَةُ الإشْراكِ - عَلى هَذا - فِيها تَجَوُّزٌ، فَإنَّهم صارُوا في دِينِهِمْ فِرَقًا، و"الشِيَعُ": الفِرَقُ، واحِدُها: شِيعَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ مَعْناهُ أنَّهم مَفْتُونُونَ بِآرائِهِمْ، مُعْجَبُونَ بِضَلالِهِمْ، وذَلِكَ أصِيلٌ فِيهِمْ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فارَقُوا دِينَهُمْ" بِالألِفِ.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَهُم بِغَیۡرِ عِلۡمࣲۖ فَمَن یَهۡدِی مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّـٰصِرِینَ","فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ حَنِیفࣰاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِی فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَیۡهَاۚ لَا تَبۡدِیلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ","۞ مُنِیبِینَ إِلَیۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","مِنَ ٱلَّذِینَ فَرَّقُوا۟ دِینَهُمۡ وَكَانُوا۟ شِیَعࣰاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ"],"ayah":"مِنَ ٱلَّذِینَ فَرَّقُوا۟ دِینَهُمۡ وَكَانُوا۟ شِیَعࣰاۖ كُلُّ حِزۡبِۭ بِمَا لَدَیۡهِمۡ فَرِحُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق