الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلَهُ مَن في السَماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ ولَهُ المَثَلُ الأعْلى في السَماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلا مِن أنْفُسِكم هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهم كَخِيفَتِكم أنْفُسِكم كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
اللامُ في لَهُ الأُولى لامُ المِلْكِ، وفي الثانِيَةِ لامُ تَعْدِيَةٍ لِـ"قَنَتَ" وقَنَتَ بِمَعْنى خَضَعَ (p-٢٠)فِي طاعَتِهِ وانْقِيادِهِ. وهَذِهِ الآيَةُ ظاهِرُ لَفْظِها العُمُومُ في القُنَّتِ، والعُمُومُ في كُلِّ مَن يَعْقِلُ، وتَعْمِيمُ ذَلِكَ في المَعْنى لا يَصِحُّ؛ لِأنَّهُ خَبَرٌ ونَحْنُ نَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لا يَقْنُتُ في كَثِيرٍ مِنَ المُعْتَقَدِ والأعْمالِ، فَلا بُدَّ أنَّ عُمُومَ ظاهِرِ هَذِهِ الآيَةِ مَعْناهُ الخُصُوصُ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في هَذا الخُصُوصِ أيْنَ هُوَ؟
فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هو في القُنَّتِ والطاعَةِ، وذَلِكَ أنَّ جَمِيعَ مَن يَعْقِلُ هو قانِتٌ لِلَّهِ في مُعْظَمِ الأُمُورِ مِنَ الحَياةِ والمَوْتِ والرِزْقِ والقُدْرَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وبَعْضُهم يَبْخَلُ بِالعِبادَةِ وبِالمُعْتَقَداتِ فَلا يَقْنُتُ فِيها، فَكَأنَّهُ قالَ: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ في مُعْظَمِ الأُمُورِ وفي غالِبِ الشَأْنِ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ ما مَعْناهُ: إنَّ الخُصُوصَ هو في الأعْيانِ المَذْكُورِينَ، كَأنَّهُ قالَ: ولَهُ مَن في السَماواتِ والأرْضِ مِن مَلَكٍ ومُؤْمِنٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿يَبْدَأُ الخَلْقَ﴾ مَعْناهُ: يُنْشِئُهُ ويُخْرِجُهُ مِنَ العَدَمِ، وجاءَ الفِعْلُ بِصِيغَةِ الحالِ لِما كانَ في هَذا المَعْنى ما قَدْ مَضى كَآدَمَ وسائِرِ القُرُونِ، وفِيهِ ما يَأْتِي في المُسْتَقْبَلِ، فَكَأنَّ صِيغَةَ الحالِ تُعْطِي هَذا كُلَّهُ. و"يُعِيدُهُ" مَعْناهُ يَبْعَثُهُ مِنَ القُبُورِ ويُنْشِئُهُ تارَةً أُخْرى.
واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَهُوَ أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والرَبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ: المَعْنى: وهو هَيِّنٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ لَعَمْرُكَ ما أدْرِي وإنِّي لَأوجَلُ
(p-٢١)بِمَعْنى لَوَجِلٌ. وقَوْلُ الآخَرُ:
؎ بَيْتًا دَعائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ
وقَوْلُهم في الأذانِ: "اللهُ أكْبَرُ"، وقَوْلُ الشافِعِيِّ رَحِمَةُ اللهِ عَلَيْهِ:
؎ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيها بِأوحَدِ
(p-٢٢)يُرِيدُ: بِواحِدٍ، واسْتَشْهَدَ بِهَذا البَيْتِ أبُو عُبَيْدَةَ، وهَذا شاهِدٌ كَثِيرٌ، وفي بَعْضِ المَصاحِفِ "وَكُلٌّ هَيِّنٌ عَلَيْهِ".
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ: المَعْنى: وهو أيْسَرُ عَلَيْهِ، وإنْ كانَ الكُلُّ مِنَ اليُسْرِ عَلَيْهِ في حَيِّزٍ واحِدٍ وحالٍ مُتَماثِلَةٍ، قالَ: ولَكِنَّ هَذا التَفْضِيلَ بِحَسْبِ مُعْتَقَدِ البَشَرِ، وما يُعْطِيهِمُ النَظَرُ في الشاهِدِ مِن أنَّ الإعادَةَ في كَثِيرٍ مِنَ الأشْياءِ أهْوَنُ عَلَيْنا مِنَ البُداءَةِ؛ لِلتَّمَرُّنِ والِاسْتِغْناءِ عَنِ الرَوِيَّةِ الَّتِي كانَتْ في البُداءَةِ. وهَذانِ القَوْلانِ الضَمِيرانِ فِيهِما عائِدانِ عَلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى.
وقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: الضَمِيرُ في "عَلَيْهِ" عائِدٌ عَلى "الخَلْقِ".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهُوَ بِمَعْنى "المَخْلُوقِ" فَقَطْ، وعَلى التَأْوِيلَيْنِ الأوَّلِينَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ "المَخْلُوقَ"، أو يَكُونَ مَصْدَرًا مِن "خَلَقَ". فَقالالحَسَنُ: إنَّ الإعادَةَ أهْوَنُ عَلى المَخْلُوقِ مِن إنْشائِهِ؛ لِأنَّهُ في إنْشائِهِ يَصِيرُ مِن حالَةٍ إلى حالَةٍ، مِن نُطْفَةٍ إلى عَلَقَةٍ إلى مُضْغَةٍ ونَحْوَ هَذا، وفي الإعادَةِ إنَّما يَقُومُ في حِينٍ واحِدَةٍ، فَكَأنَّهُ قالَ: وهو أيْسَرُ عَلَيْهِ، أيْ: أقْصَرُ مُدَّةً وأقَلُّ انْتِقالًا.
وقالَ بَعْضُهُمْ: وهو أهْوَنُ عَلى المَخْلُوقِ أنْ يُعِيدَ شَيْئًا بَعْدَ إنْشائِهِ، فَهَذا عُرْفُ المَخْلُوقِينَ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ أنْتُمُ الإعادَةَ في جانِبِ الخالِقِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والأظْهَرُ عِنْدِي عَوْدُ الضَمِيرِ عَلى اللهِ تَعالى، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُ المَثَلُ الأعْلى﴾، لِما جاءَ بِلَفْظٍ فِيهِ اسْتِعارَةٌ واسْتِشْهادٌ بِالمَخْلُوقِ عَلى الخالِقِ، وتَشْبِيهٌ بِما يَعْهَدُهُ الناسُ مِن أنْفُسِهِمْ، خَلَصَ جانِبُ العَظَمَةِ بِأنْ جَعْلَ لَهُ المَثَلَ الأعْلى الَّذِي لا يَصِلُ إلَيْهِ تَكْيِيفٌ ولا تَماثُلٌ مَعَ شَيْءٍ. والعِزَّةُ والحِكْمَةُ صِفَتانِ مُوافِقَتانِ لِمَعْنى الآيَةِ، فَبِهِما يُعِيدُ ويَنْفُذُ أمْرُهُ في عِبادِهِ كَيْفَ شاءَ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أمْرَ الأصْنامِ وفَسادَ مُعْتَقَدِ مَن يُشْرِكُها بِاللهِ بِضَرْبِ هَذا المَثَلِ، ومَعْناهُ: إنَّكم أيُّها الناسُ إذا كانَ لَكم عَبِيدٌ تَمْلِكُونَهم فَإنَّكم لا تُشْرِكُونَهم في أمْوالِكم ولا في أُمُورِكم ولا في شَيْءٍ عَلى جِهَةِ اسْتِواءِ المَنزِلَةِ، ولَيْسَ مِن شَأْنِكم أنْ تَخافُوهم (p-٢٣)فِي أنْ يَرِثُوا أمْوالَكم أو يُقاسِمُوكم إيّاها في حَياتِكُمْ، كَما يَفْعَلُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ، فَإذا كانَ هَذا فِيكم فَكَيْفَ تَقُولُونَ: إنَّ مِن عَبِيدِهِ ومِلْكِهِ شُرَكاءَ في سُلْطانِهِ وأُلُوهِيَّتِهِ، وتُثْبِتُونَ في جانِبِهِ ما لا يَلِيقُ بِكم عِنْدَكم بِجَوانِبِكُمْ؟ هَذا تَفْسِيرُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وجَماعَةٍ، وجاءَ هَذا المَعْنى في مَعْرِضِ السُؤالِ والتَقْرِيرِ.
وقَرَأ الناسُ: ﴿كَخِيفَتِكم أنْفُسَكُمْ﴾ بِنَصْبِ السِينِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِضَمِّها. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نُفَصِّلُ" بِالنُونِ حَمَلًا عَلى "رَزَقْناكُمْ"، وقَرَأ عَبّاسٌ عن أبِي عَمْرٍو: "يُفَصِّلُ" بِالياءِ حَمَلًا عَلى "ضَرَبَ لَكم مَثَلًا".
{"ayahs_start":26,"ayahs":["وَلَهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ كُلࣱّ لَّهُۥ قَـٰنِتُونَ","وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","ضَرَبَ لَكُم مَّثَلࣰا مِّنۡ أَنفُسِكُمۡۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن شُرَكَاۤءَ فِی مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ فَأَنتُمۡ فِیهِ سَوَاۤءࣱ تَخَافُونَهُمۡ كَخِیفَتِكُمۡ أَنفُسَكُمۡۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ"],"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَهُوَ أَهۡوَنُ عَلَیۡهِۚ وَلَهُ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق