الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَمَنِ افْتَرى عَلى اللهِ الكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظالِمُونَ﴾ ﴿قُلْ صَدَقَ اللهُ فاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وهُدًى لِلْعالَمِينَ﴾
قَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ افْتَرى عَلى اللهِ الكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ تَحْتَمِلُ الإشارَةُ بِـ ذَلِكَ أنْ تَكُونَ إلى ثَلاثَةِ أشْياءٍ: أحَدُها: أنْ تَكُونَ إلى التِلاوَةِ إذْ مُضَمَّنُها بَيانُ المَذْهَبِ وقِيامُ الحُجَّةِ، أيْ: فَمَن كَذَبَ مِنّا عَلى اللهِ تَعالى أو نَسَبَ إلى كُتُبِ اللهِ ما لَيْسَ فِيها فَهو ظالِمٌ، واضِعٌ الشَيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ؛ والآخَرُ: أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى اسْتِقْرارِ التَحْرِيمِ في التَوْراةِ، لِأنَّ مَعْنى الآيَةِ: كُلُّ الطَعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا ما حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، ثُمَّ حَرَّمَتْهُ التَوْراةُ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَمَنِ افْتَرى عَلى اللهِ الكَذِبَ وزادَ في المُحَرَّماتِ فَهو الظالِمُ؛ والثالِثُ: أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى الحالِ بَعْدَ تَحْرِيمِ إسْرائِيلَ عَلى نَفْسِهِ وقَبْلَ نُزُولِ التَوْراةِ، أيْ مَن تَسَنَّنَ بِيَعْقُوبَ وشَرَعَ ذَلِكَ دُونَ إذْنٍ مِنَ اللهِ، ومَن حَرَّمَ شَيْئًا ونَسَبَهُ إلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ فَهو الظالِمُ. ويُؤَيِّدُ هَذا الِاحْتِمالَ الأخِيرَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] فَنَصَّ عَلى أنَّهُ كانَ لَهم ظُلْمٌ في مَعْنى التَحْلِيلِ والتَحْرِيمِ، وكانُوا يُشَدِّدُونَ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، كَما فَعَلُوا في أمْرِ البَقَرَةِ. وبِخِلافِ هَذِهِ السِيرَةِ جاءَ الإسْلامُ في قَوْلِهِ ﷺ: « "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا"،» وقَوْلِهِ: « "دِينُ اللهِ يُسْرٌ"» وقَوْلِهِ: « "بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَمْحَةِ.»
ثُمَّ أمَرَ اللهُ تَعالى نَبِيَّهُ أنْ يَصْدَعَ بِالخِلافِ والجِدالِ مَعَ الأحْبارِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ (p-٢٨٨)صَدَقَ اللهُ﴾ أيِ: الأمْرُ كَما وصَفَ لا كَما تَكْذِبُونَ أنْتُمْ، فَإنْ كُنْتُمْ تَعْتَزُّونَ بِإبْراهِيمَ فاتَّبِعُوا مِلَّتَهُ عَلى ما ذَكَرَ اللهُ.
وقَرَأ أبانُ بْنُ تَغْلِبَ: "قُل صَّدَقَ" بِإدْغامِ اللامِ في الصادِ، وكَذَلِكَ: "قُل سِّيرُوا" قَرَأها بِإدْغامِ اللامِ في السِينِ. قالَ أبُو الفَتْحِ: عِلَّةُ جَوازِ ذَلِكَ فُشُوُّ هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ في الفَمِ وانْتِشارُ الصَدى المُنْبَثِّ عنهُما، فَقارَبَتا بِذَلِكَ مَخْرَجَ اللامِ، فَجازَ إدْغامُهُما فِيهِما. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "وُضِعَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَجْهُولِ عَلى مَعْنى: وضَعَهُ اللهُ فالآيَةُ عَلى هَذا ابْتِداءُ مَعْنىً مُنْقَطِعٍ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "وَضَعَ" بِفَتْحِ الواوِ والضادِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: وضَعَ اللهُ، فَيَكُونَ المَعْنى مُنْقَطِعًا كَما هو في قِراءَةِ الجُمْهُورِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ وضَعَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ، فَيَكُونَ المَعْنى مُتَّصِلًا بِالَّذِي قَبْلَهُ، وتَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ اسْتِدْعاءً لَهم إلى مِلَّتِهِ، في الحَجِّ وغَيْرِهِ عَلى ما رَوى عِكْرِمَةُ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥].... الآيَةُ، قالَ اليَهُودُ: نَحْنُ عَلى الإسْلامِ، فَقُرِئَتْ: ﴿وَلِلَّهِ عَلى الناسِ حِجُّ البَيْتِ﴾ [آل عمران: ٩٧] قِيلَ لَهُ: أحِجَّهم يا مُحَمَّدُ إنْ كانُوا عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ الَّتِي هي الإسْلامُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ ما قالَ أبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: المَسْجِدُ الأقْصى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُما؟ قالَ أرْبَعُونَ سَنَةً".» فَيَظْهَرُ مِن هَذا أنَّهُما مِن وضْعِ إبْراهِيمَ جَمِيعًا، ويُضْعِفُ ما قالَ الزَجّاجُ مِن أنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ مِن بِناءِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ، اللهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ جَدَّدَهُ، وأيْنَ مُدَّةُ سُلَيْمانَ مِن مُدَّةِ إبْراهِيمَ؟ ولا مِرْيَةَ في أنَّ إبْراهِيمَ وضَعَ بَيْتَ مَكَّةَ، وإنَّما الخِلافُ هَلْ وضْعُ بَدْأةٍ أو وضْعُ تَجْدِيدٍ؟
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى هَذِهِ "الأوَّلِيَّةِ" الَّتِي في قَوْلِهِ: "إنَّ أوَّلَ"، فَقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: مَعْنى قَوْلِهِ: إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ مُبارَكًا وهُدىً هَذا البَيْتُ الَّذِي بِمَكَّةَ، وقَدْ كانَتْ قَبْلَهُ بُيُوتٌ لَمْ تُوضَعْ وضْعَهُ مِنَ البَرَكَةِ والهُدى. وقالَ قَوْمٌ: بَلْ هو أوَّلُ بَيْتٍ خَلَقَ اللهُ تَعالى ومِن تَحْتِهِ دُحِيَتِ الأرْضُ.
(p-٢٨٩)وَرُوِيَتْ في هَذا أقاصِيصُ مِن نُزُولِ آدَمَ بِهِ مِنَ الجَنَّةِ ومِن تَحْدِيدٍ حَدَّدَ ما بَيْنَ خَلْقِهِ ودَحْوِ الأرْضِ، ونَحْوُ ما قالَ الزَجّاجُ مِن أنَّهُ البَيْتُ المَعْمُورُ، أسانِيدُها ضِعافٌ فَلِذَلِكَ تَرَكْتُها. وعَلى هَذا القَوْلِ يَجِيءُ رَفْعُ إبْراهِيمَ القَواعِدَ تَجْدِيدًا؛ قالَ قَتادَةُ: ذُكِرَ لَنا أنَّ البَيْتَ أُهْبِطَ مَعَ آدَمَ ورُفِعَ وقْتَ الطُوفانِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في "بَكَّةَ" - فَقالَ الضَحّاكُ وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: بَكَّةُ هي مَكَّةُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَكَأنَّ هَذا مِن إبْدالِ الباءِ بِالمِيمِ، عَلى لُغَةِ مازِنَ وغَيْرِهِمْ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وابْنُ شِهابٍ وجَماعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ العُلَماءِ: مَكَّةُ: الحَرَمُ كُلُّهُ، وبَكَّةُ: مُزْدَحَمُ الناسِ حَيْثُ يَتَباكَوْنَ، وهو المَسْجِدُ وما حَوْلَ البَيْتِ. وقالَ مالِكٌ في سَماعِ ابْنِ القاسِمِ مِنَ العُتْبِيَّةِ: بَكَّةُ: مَوْضِعُ البَيْتِ، ومَكَّةُ: غَيْرُهُ مِنَ المَواضِعِ؛ قالَ ابْنُ القاسِمِ: يُرِيدُ القَرْيَةَ. قالَ الطَبَرِيُّ: ما خَرَجَ عن مَوْضِعِ الطَوافِ فَهو مَكَّةُ لا بَكَّةَ. وقالَ قَوْمٌ: بَكَّةُ: ما بَيْنَ الجَبَلَيْنِ، ومَكَّةُ: الحَرَمُ كُلُّهُ.
و"مُبارَكًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، والعامِلُ فِيهِ عَلى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ إنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ بِهَذِهِ الحالِ قَوْلُهُ: "وُضِعَ" والعامِلُ فِيهِ عَلى القَوْلِ الآخَرِ، الفِعْلُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ باءُ الجَرِّ في قَوْلِهِ: "بِبَكَّةَ" تَقْدِيرُهُ: اسْتَقَرَّ بِبَكَّةَ مُبارَكًا. وفي وصْفِ البَيْتِ بِهُدىً مَجازِيَّةٌ بَلِيغَةٌ، لِأنَّهُ مُقَوِّمٌ مُصْلِحٌ، فَهو مُرْشِدٌ، وفِيهِ إرْشادٌ، فَجاءَ قَوْلُهُ: "وَهُدىً" بِمَعْنى: وذا هُدىً، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هُدىً في هَذِهِ الآيَةِ بِمَعْنى الدُعاءِ، أيْ مِن حَيْثُ دُعِيَ العالَمُونَ إلَيْهِ.
{"ayahs_start":94,"ayahs":["فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ","قُلۡ صَدَقَ ٱللَّهُۗ فَٱتَّبِعُوا۟ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","إِنَّ أَوَّلَ بَیۡتࣲ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَكَّةَ مُبَارَكࣰا وَهُدࣰى لِّلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"فَمَنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق