الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ وشَهِدُوا أنَّ الرَسُولَ حَقٌّ وجاءَهُمُ البَيِّناتُ واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ والمَلائِكَةِ والناسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عنهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْظَرُونَ﴾ ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
«قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ﴾ نَزَلَتْ في الحارِثِ بْنِ (p-٢٧٧)سُوَيْدٍ الأنْصارِيِّ،» كانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ ولَحِقَ بِالشِرْكِ، ثُمَّ نَدِمَ فَأرْسَلَ إلى قَوْمِهِ أنْ يَسْألُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ هَلْ لِي مِن تَوْبَةٍ؟ قالَ: فَنَزَلَتْ ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ﴾... الآياتُ، إلى قَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾، فَأرْسَلَ إلَيْهِ قَوْمُهُ فَأسْلَمَ. وقالَ مُجاهِدٌ: حَمَلَ الآياتِ إلَيْهِ رَجُلٌ مِن قَوْمِهِ فَقَرَأها عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ الحارِثُ: إنَّكَ واللهِ لَما عَلِمْتُ لَصَدُوقٌ، وإنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَأصْدَقُ مِنكَ، وإنَّ اللهَ لَأصْدَقُ الثَلاثَةِ قالَ فَرَجَعَ الحارِثُ فَأسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ. وقالَ السُدِّيُّ: نَسَخَ اللهُ تَعالى، بِقَوْلِهِ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ قَوْلَهُ: ﴿أُولَئِكَ جَزاؤُهم أنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ﴾. وفي هَذِهِ العِبارَةِ تَجَوُّزٌ كَثِيرٌ، ولَيْسَ هَذا بِمَوْضِعِ نَسْخٍ.
وقالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي عامِرٍ الراهِبِ والحارِثِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصامِتِ ووَحْوَحِ بْنِ الأسْلَتِ في اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الإسْلامِ ولَحِقُوا بِقُرَيْشٍ ثُمَّ كَتَبُوا إلى أهْلِيهِمْ: هَلْ لَنا مِن تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: إنَّ هَذِهِ الآياتِ نَزَلَتْ في اليَهُودِ والنَصارى، شَهِدُوا بِنَعْتِ الرَسُولِ ﷺ وآمَنُوا بِهِ، فَلَمّا جاءَ مِنَ العَرَبِ حَسَدُوهُ، وكَفَرُوا بِهِ ورَجَّحَ الطَبَرِيُّ هَذا القَوْلَ، وقالَ النَقّاشُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآياتُ في طُعَيْمَةِ بْنِ أُبَيْرِقَ. وكُلُّ مَن ذُكِرَ فَألْفاظُ الآيَةِ تَعُمُّهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ﴾ سُؤالٌ عن حالٍ، لَكِنَّهُ سُؤالُ تَوْقِيفٍ عَلى جِهَةِ (p-٢٧٨)الِاسْتِبْعادِ لِلْأمْرِ، كَما قالَ عَلَيْهِ السَلامُ: « "كَيْفَ تُفْلِحُ أُمَّةٌ أدْمَتْ وجْهَ نَبِيِّها؟"» فالمَعْنى: أنَّهم لِشِدَّةِ هَذِهِ الجَرائِمِ يَبْعُدُ أنْ يَهْدِيَهُمُ اللهُ تَعالى.
وقَوْلُهُ تَعالى: "وَشَهِدُوا" عَطْفٌ عَلى "كَفَرُوا" بِحُكْمِ اللَفْظِ، والمَعْنى مَفْهُومٌ أنَّ الشَهادَةَ قَبْلَ الكُفْرِ، والواوُ لا تُرَتِّبُ. وقالَ قَوْمٌ: مَعْنى قَوْلِهِ: "بَعْدَ إيمانِهِمْ" بَعْدَ أنْ آمَنُوا، فَقَوْلُهُ: "وَشَهِدُوا" عَطْفٌ عَلى هَذا التَقْدِيرِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظالِمِينَ﴾ عُمُومٌ مَعْناهُ الخُصُوصُ فِيمَن حَتَمَ كُفْرَهُ ومُوافاتَهُ عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الإخْبارَ عن أنَّ الظالِمَ في ظُلْمِهِ لَيْسَ عَلى هُدىً مِنَ اللهِ، فَتَجِيءُ الآيَةُ عامَّةً تامَّةَ العُمُومِ. واللَعْنَةُ: الإبْعادُ وعَدَمُ الرَحْمَةِ والعَطْفِ، وذَلِكَ مَعَ قَرِينَةِ الكُفْرِ زَعِيمٌ بِتَخْلِيدِهِمْ في النارِ، ولَعْنَةُ المَلائِكَةِ: قَوْلٌ. "والناسِ": بَنُو آدَمَ، ويَظْهَرُ مِن كَلامِ أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ في بَعْضِ تَعالِيقِهِ، أنَّ الجِنَّ يَدْخُلُونَ في لَفْظَةِ الناسِ، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ:
؎ فَقُلْتُ إلى الطَعامِ فَقالَ مِنهم ∗∗∗ أُناسٌ نَحْسُدُ الإنْسَ الطَعاما
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ لَفْظَةَ "الناسِ" إذا جاءَتْ مُطْلَقَةً فَإنَّما هي في كَلامِ العَرَبِ بَنُو آدَمَ لا غَيْرَ، فَإذا جاءَتْ مُقَيَّدَةً بِالجِنِّ، فَذَلِكَ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ، إذْ هي جَماعَةٌ كَجَماعَةٍ، وكَذَلِكَ: ﴿بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ﴾ [الجن: ٦] وكَذَلِكَ: ﴿نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ [الجن: ١]، ولَفْظَةُ النَفَرِ أقْرَبُ إلى الِاشْتِراكِ مِن رِجالٍ وناسٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والناسِ﴾ [الناس: ٦] قاضٍ بِتَبايُنِ الصِنْفَيْنِ.
(p-٢٧٩)وَقَوْلُهُ تَعالى: "والناسِ أجْمَعِينَ" إمّا يَكُونُ لِمَعْنى الخُصُوصِ في المُؤْمِنِينَ سَمّاهُمُ الناسَ إذْ هُمُ المُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وإمّا أنْ يُرِيدَ أنَّهم في الآخِرَةِ يَلْعَنُهُمُ المُؤْمِنُونَ ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، فَيَجِيءُ مِن هَذا في كُلِّ شَخْصٍ مِنهم أنْ لَعَنَهُ جَمِيعُ الناسِ، وإمّا أنْ يُرِيدَ أنَّ هَذِهِ اللَعْنَةَ تَقَعُ في الدُنْيا مِن جَمِيعِ الناسِ عَلى مَن هَذِهِ صِفَتُهُ. وكُلُّ مَن هَذِهِ صِفَتُهُ -وَقَدْ أغْواهُ الشَيْطانُ- يَلْعَنُ صاحِبَ الصِفاتِ ولا يَشْعُرُ مِن نَفْسِهِ أنَّهُ مُتَّصِفٌ بِها، فَيَجِيءُ مِن هَذا أنَّهم يَلْعَنُهم جَمِيعُ الناسِ في الدُنْيا حَتّى أنَّهم لَيَلْعَنُونَ أنْفُسَهُمْ، لَكِنْ عَلى غَيْرِ تَعْيِينٍ.
والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "خالِدِينَ فِيها" قالَ الطَبَرِيُّ: يَعُودُ عَلى عُقُوبَةِ اللهِ الَّتِي يَتَضَمَّنُها مَعْنى اللَعْنَةِ. وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى اللَعْنَةِ. وقَرائِنُ الآيَةِ تَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ اللَعْنَةَ مُخَلِّدَةٌ لَهم في جَهَنَّمَ، فالضَمِيرُ عائِدٌ عَلى النارِ، وإنْ كانَ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ، لِأنَّ المَعْنى يُفْهِمُها في هَذا المَوْضِعِ، كَما يُفْهِمُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] أنَّها الأرْضُ. وقَدْ قالَ بَعْضُ الخُراسانِيِّينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ [النازعات: ٤٥]: إنَّ الضَمِيرَ عائِدٌ عَلى النارِ.
و"يُنْظَرُونَ" في هَذِهِ الآيَةِ، بِمَعْنى يُؤَخَّرُونَ، ولا راحَةَ إلّا في التَخْفِيفِ أوِ التَأْخِيرِ فَهُما مُرْتَفِعانِ عنهُمْ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ "يُنْظَرُونَ" هُنا مِن نَظَرِ العَيْنِ إلّا عَلى تَوْجِيهٍ غَيْرِ فَصِيحٍ لا يَلِيقُ بِكِتابِ اللهِ تَعالى.
وقوله عزّ وجلّ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا﴾ اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ذَلِكَ﴾ والتَوْبَةُ: الرُجُوعُ، والإصْلاحُ عامٌّ في القَوْلِ والعَمَلِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وعْدٌ؛ وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "والناسِ أجْمَعُونَ".
{"ayahs_start":86,"ayahs":["كَیۡفَ یَهۡدِی ٱللَّهُ قَوۡمࣰا كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ وَشَهِدُوۤا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُمۡ أَنَّ عَلَیۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ","خَـٰلِدِینَ فِیهَا لَا یُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ یُنظَرُونَ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ وَأَصۡلَحُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ"],"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ جَزَاۤؤُهُمۡ أَنَّ عَلَیۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق