الباحث القرآني
(p-٢٦٢)قوله عزّ وجلّ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ويَقُولُونَ عَلى اللهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٥] ﴿بَلى مَن أوفى بِعَهْدِهِ واتَّقى فَإنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وأيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهم في الآخِرَةِ ولا يُكَلِّمُهُمُ اللهِ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾.
الإشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إلى كَوْنِهِمْ لا يُؤَدُّونَ الأمانَةَ في دِينارٍ فَما فَوْقَهُ، عَلى أحَدِ التَأْوِيلَيْنِ، والضَمِيرُ فِي: "قالُوا" يَعْنِي بِهِ لَفِيفَ بَنِي إسْرائِيلَ، لِأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أهْلُ الكِتابِ، والعَرَبُ أُمِّيُّونَ أصْحابُ أوثانٍ، فَأمْوالُهم لَنا حَلالٌ مَتى قَدِرْنا عَلى شَيْءٍ مِنها لا حُجَّةَ عَلَيْنا في ذَلِكَ ولا سَبِيلَ لِمُعْتَرِضٍ وناقِدٍ إلَيْنا في ذَلِكَ. والأُمِّيُّونَ: القَوْمُ الَّذِينَ لا يَكْتُبُونَ لِأنَّهم لا يُحْسِنُونَ الكِتابَةَ، وقَدْ مَرَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ اشْتِقاقُ اللَفْظِ.
واسْتِعارَةُ السَبِيلِ هُنا في الحُجَّةِ هو عَلى نَحْوِ قَوْلِ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
؎ وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ ∗∗∗ مِنَ السَرْحِ مَوْجُودٌ عَلَيَّ طَرِيقُ؟
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤١] هو مِن هَذا المَعْنى، وهو كَثِيرٌ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا قالَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنّا نَمُرُّ في الغَزْوِ بِأمْوالِ أهْلِ الذِمَّةِ فَنَأْخُذُ مِنها الشاةَ والدَجاجَةَ ونَحْوَها قالَ: وتَقُولُونَ ماذا؟ قالَ نَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنا بَأْسٌ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا كَما قالَ أهْلُ الكِتابِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥] إنَّهم إذا أدَّوُا الجِزْيَةَ لَمْ تَحِلَّ لَكم أمْوالُهم إلّا بِطِيبِ أنْفُسِهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلى اللهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٥] ذَمٌّ لِبَنِي إسْرائِيلَ بِأنَّهم يَكْذِبُونَ عَلى اللهِ تَعالى في غَيْرِ ما شَيْءٍ، وهم عُلَماءُ بِمَواضِعِ الصِدْقِ لَوْ قَصَدُوها، ومِن أخْطَرِ ذَلِكَ أمْرُ مُحَمَّدٍ ﷺ، هَذا قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ المُتَأوِّلِينَ. ورُوِيَ عَنِ السُدِّيِّ (p-٢٦٣)وابْنِ جُرَيْجٍ وغَيْرِهِما أنَّ طائِفَةً مِن أهْلِ الكِتابِ ادَّعَتْ أنَّ في التَوْراةِ إحْلالَ اللهِ لَهم أمْوالَ الأُمِّيِّينَ كَذِبًا مِنها وهي عالِمَةٌ بِكَذِبِها في ذَلِكَ، وقالا: والإشارَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ إلى ذَلِكَ الكَذِبِ المَخْصُوصِ في هَذا الفَصْلِ.
ثُمَّ رَدَّ اللهُ تَعالى في صَدْرِ قَوْلِهِمْ: "لَيْسَ عَلَيْنا" بِقَوْلِهِ "بَلى" أيْ: عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ وحُجَّةٌ وتِباعَةٌ، ثُمَّ أخْبَرَ عَلى جِهَةِ الشَرْطِ أنَّ مَن أوفى بِالعَهْدِ واتَّقى عُقُوبَةَ اللهِ في نَقْضِهِ، فَإنَّهُ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ. وتَقُولُ العَرَبُ: وفى بِالعَهْدِ، وأوفى بِهِ بِمَعْنىً، وأوفى هي لُغَةُ الحِجازِ، وفَسَّرَ الطَبَرِيُّ وغَيْرُهُ عَلى أنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: "بِعَهْدِهِ" عائِدٌ عَلى اللهِ تَعالى. وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو عائِدٌ عَلى "مَن". والقَوْلانِ يَرْجِعانِ إلى مَعْنىً واحِدٍ، لِأنَّ أمْرَ اللهِ تَعالى بِالوَفاءِ مُقْتَرِنٌ بِعَهْدِ كُلِّ إنْسانٍ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "اتَّقى" في هَذِهِ الآيَةِ، مَعْناهُ: اتَّقى الشِرْكَ، ثُمَّ خَرَجَ جَوابُ الشَرْطِ عَلى تَعْمِيمِ المُتَّقِينَ تَشْرِيفًا لِلتَّقْوى وحَضًّا عَلَيْها.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ﴾.....الآيَةُ، وعِيدٌ لِمَن فَعَلَ هَذِهِ الأفاعِيلَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهي آيَةٌ يَدْخُلُ فِيها الكُفْرُ فَما دُونَهُ مِن جَحْدِ الحُقُوقِ، وخَتْرِ المَواثِيقِ. وكُلُّ أحَدٍ يَأْخُذُ مِن وعِيدِ الآيَةِ عَلى قَدْرِ جَرِيمَتِهِ.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في سَبَبِ نُزُولِها، فَقالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ في أحْبارِ اليَهُودِ، أبِي رافِعٍ وكِنانَةِ بْنِ أبِي الحَقِيقِ وكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ، تَرَكُوا عَهْدَ اللهِ في التَوْراةِ لِلْمَكاسِبِ والرِياسَةِ الَّتِي كانُوا بِسَبِيلِها. ورُوِيَ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ خُصُومَةِ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ رَجُلٍ مِنَ اليَهُودِ في أرْضٍ، فَوَجَبَتِ اليَمِينُ عَلى اليَهُودِيِّ فَقالَ الأشْعَثُ: إذَنْ يَحْلِفُ يا رَسُولَ اللهِ ويَذْهَبُ بِمالِي، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. ورُوِيَ أنَّ (p-٢٦٤)الأشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ اخْتَصَمَ في أرْضٍ مَعَ رَجُلٍ مِن قَرابَتِهِ فَوَجَبَتِ اليَمِينُ عَلى الأشْعَثِ، وكانَ في الحَقِيقَةِ مُبْطِلًا قَدْ غَصَبَ تِلْكَ الأرْضَ في جاهِلِيَّتِهِ فَنَزَلَتِ الآيَةُ، فَنَكَلَ الأشْعَثُ عَنِ اليَمِينِ، وتَحَرَّجَ وأعْطى الأرْضَ وزادَ مِن عِنْدِهِ أرْضًا أُخْرى.
ورُوِيَ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ خُصُومَةٍ لِغَيْرِ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ. وقالَ الشَعْبِيُّ: نَزَلَتِ الآيَةُ في رَجُلٍ أقامَ سِلْعَةً في السُوقِ مِن أوَّلِ النَهارِ، فَلَمّا كانَ في آخِرِهِ جاءَهُ رَجُلٌ فَساوَمَهُ فَحَلَفَ حانِثًا: لَقَدْ مَنَعَها في أوَّلِ النَهارِ مِن كَذا وكَذا ولَوْلا المَساءُ ما باعَها، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ: اليَمِينُ الفاجِرَةُ مِنَ الكَبائِرِ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنّا نَرى ونَحْنُ مَعَ نَبِيِّنا أنَّ مِنَ الذَنْبِ الَّذِي لا يُغْفَرُ يَمِينَ الصَبْرِ إذا فَجَرَ فِيها صاحِبُها، وقَدْ جَعَلَ اللهُ الأيْمانَ في هَذِهِ الألْفاظِ مُشْتَراةً، فَهي مَثْمُونَةٌ أيْضًا. والخَلاقُ: الحَظُّ والنَصِيبُ والقَدْرُ، وهو مُسْتَعْمَلٌ في المُسْتَحَبّاتِ.
وقالَ الطَبَرِيُّ: "وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ" مَعْناهُ: بِما يَسُرُّهُمْ، وقالَ غَيْرُهُ: نَفى تَعالى أنْ يُكَلِّمَهم جُمْلَةً لِأنَّهُ يُكَلِّمُ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ. وقالَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ: وهي عِبارَةٌ عَنِ الغَضَبِ؛ المَعْنى: لا يَحْفِلُ بِهِمْ ولا يَرْضى عنهم. "وَلا يُزَكِّيهِمْ" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: يُطَهِّرُهم مِنَ الذُنُوبِ وأدْرانِها، والآخَرُ: يُنَمِّي أعْمالَهُمْ، فَهي تَنْمِيَةٌ لَهُمْ، والوَجْهانِ مَنفِيّانِ عنهم في الآخِرَةِ، و"ألِيمٌ" فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعِلٌ، فالمَعْنى، مُؤْلِمٌ.
{"ayahs_start":76,"ayahs":["بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ یَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَیۡمَـٰنِهِمۡ ثَمَنࣰا قَلِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَا خَلَـٰقَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا یَنظُرُ إِلَیۡهِمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ یَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَیۡمَـٰنِهِمۡ ثَمَنࣰا قَلِیلًا أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَا خَلَـٰقَ لَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَا یُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا یَنظُرُ إِلَیۡهِمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَلَا یُزَكِّیهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق