الباحث القرآني

(p-٢٥٣)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمِنُوا وجْهَ النَهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إلا لِمَن تَبِعَ دِينَكم قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أو يُحاجُّوكم عِنْدَ رَبِّكم.﴾ أخْبَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ طائِفَةً مِنَ اليَهُودِ مِن أحْبارِهِمْ ذَهَبَتْ إلى خَدِيعَةِ المُسْلِمِينَ بِهَذا المَنزَعِ، قالَ الحَسَنُ: قالَتْ ذَلِكَ يَهُودُ خَيْبَرَ لِيَهُودِ المَدِينَةِ، قالَ قَتادَةُ وأبُو مالِكٍ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمْ: قالَ بَعْضُ الأحْبارِ: لِنُظْهِرِ الإيمانَ لِمُحَمَّدٍ صَدْرَ النَهارِ ثُمَّ لْنَكْفُرْ بِهِ آخِرَ النَهارِ، فَسَيَقُولُ المُسْلِمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ: ما بالُ هَؤُلاءِ كانُوا مَعَنا ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنّا؟ ما ذَلِكَ إلّا لِأنَّهُمُ انْكَشَفَتْ لَهم حَقِيقَةٌ في الأمْرِ فَيَشُكُّونَ، ولَعَلَّهم يَرْجِعُونَ عَنِ الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ. ولَمّا كانَتِ الأحْبارُ يُظَنُّ بِهِمُ العِلْمُ وجَوْدَةُ النَظَرِ والِاطِّلاعُ عَلى الكِتابِ القَدِيمِ، طَمِعُوا أنْ تَنْخَدِعَ العَرَبُ بِهَذِهِ النَزْعَةِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ: جاؤُوا إلى النَبِيِّ ﷺ بُكْرَةً فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ أنْتَ هو المَوْصُوفُ في كِتابِنا، ولَكِنْ أمْهِلْنا إلى العَشِيِّ حَتّى نَنْظُرَ في أمْرِنا، ثُمَّ رَجَعُوا بِالعَشِيِّ، فَقالُوا: قَدْ نَظَرْنا ولَسْتَ بِهِ. "وَجْهَ" عَلى هَذا التَأْوِيلِ مَنصُوبٌ بِقَوْلِهِ: "آمِنُوا" والمَعْنى: أظْهِرُوا الإيمانَ في وجْهِ النَهارِ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "آخِرَهُ" عائِدٌ عَلى النَهارِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما: نَزَلَتِ الآيَةُ، لِأنَّ اليَهُودَ ذَهَبَتْ إلى المَكْرِ بِالمُؤْمِنِينَ، فَصَلُّوا مَعَ النَبِيِّ ﷺ صَلاةَ الصُبْحِ، ثُمَّ رَجَعُوا آخِرَ النَهارِ، فَصَلُّوا صَلاتَهم لِيَرى الناسُ أنَّهم بَدَتْ لَهم مِنهُ ضَلالَةٌ بَعْدَ أنْ كانُوا اتَّبَعُوهُ. وهَذا القَوْلُ قَرِيبٌ مِنَ القَوْلِ الأوَّلِ. وقالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أمْرِ القِبْلَةِ، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صَلّى صَلاةَ الصُبْحِ إلى الشامِ كَما كانَ يُصَلِّي، ثُمَّ حُوِّلَتِ القِبْلَةُ فَصَلّى (p-٢٥٤)الظُهْرَ - وقِيلَ العَصْرُ- إلى مَكَّةَ، فَقالَتِ الأحْبارُ لِتُبّاعِهِمْ ولِلْعَرَبِ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ في أوَّلِ النَهارِ واكْفُرُوا بِهَذِهِ القِبْلَةِ الأخِيرَةِ. والعامِلُ في قَوْلِهِ "وَجْهَ النَهارِ"- عَلى هَذا التَأْوِيلِ- قَوْلُهُ: "أُنْزِلَ" والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "آخِرَهُ" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى النَهارِ أو يَعُودَ عَلى "الَّذِي أُنْزِلَ". "وَيَرْجِعُونَ" - في هَذا التَأْوِيلِ- مَعْناهُ: عن مَكَّةَ إلى قِبْلَتِنا الَّتِي هي الشامُ، كَذَلِكَ قالَ قائِلُ هَذا التَأْوِيلِ. و"وَجْهَ النَهارِ" أوَّلُهُ الَّذِي يُواجَهُ مِنهُ، تَشْبِيهًا بِوَجْهِ الإنْسانِ، وكَذَلِكَ تَقُولُ: صَدْرُ النَهارِ وغُرَّةُ العامِ والشَهْرِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ « "أقَتَلْتَهُ في غُرَّةِ الإسْلامِ"؟» ومِن هَذا قَوْلُ الرَبِيعِ بْنِ زِيادٍ العَبْسِيِّ: ؎ مَن كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ ∗∗∗ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنا بِوَجْهِ نَهارِ ؎ يَجِدِ النِساءَ حَواسِرًا يَنْدُبْنَهُ ∗∗∗ ∗∗∗ قَدْ قُمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحارِ يَقُولُ هَذا في مالِكِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جُذَيْمَةَ العَبْسِيِّ وكانُوا قَدْ أخَذُوا بِثَأْرِهِ، وكانَ القَتِيلُ عِنْدَهم لا يُناحُ عَلَيْهِ ولا يُنْدَبُ إلّا بَعْدَ أخْذِ ثَأْرِهِ. فالمَعْنى: مَن سَرَّهُ مُصابُنا فِيهِ فَلْيَنْظُرْ إلى ما يَدُلُّهُ عَلى أنّا قَدْ أدْرَكْنا ثَأْرَهُ، فَيُكْمَدْ لِذَلِكَ ويَغْتَمَّ، ومِنِ اسْتِعارَةِ الوَجْهِ قَوْلُهُمْ: فَعَلْتُ كَذا عَلى وجْهِ الدَهْرِ، أيْ في القَدِيمِ. وذَكَرَ اللهُ تَعالى عن هَذِهِ الطائِفَةِ مِن أهْلِ الكِتابِ، أنَّهم قالُوا: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ ولا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ التَأْوِيلِ أنَّ هَذا القَوْلَ هو مِن كَلامِ الطائِفَةِ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أو يُحاجُّوكُمْ﴾ فَقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ مِن أهْلِ التَأْوِيلِ: الكَلامُ كُلُّهُ مِن قَوْلِ الطائِفَةِ لِأتْباعِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ﴾ اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ. (p-٢٥٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والكَلامُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ يَحْتَمِلُ مَعانِيَ أحَدُها: ولا تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا وتُؤْمِنُوا إلّا لِمَن جاءَ بِمِثْلِ دِينِكم كَراهَةً أو مَخافَةً أو حِذارًا أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِنَ النُبُوَّةِ والكَرامَةِ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، وحَذَرًا أنْ يُحاجُّوكم بِتَصْدِيقِكم إيّاهم عِنْدَ رَبِّكم إذا لَمْ تَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ. وهَذا القَوْلُ عَلى هَذا المَعْنى ثَمَرَةُ الحَسَدِ والكُفْرِ، مَعَ المَعْرِفَةِ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ، أنْ "لا يُؤْتى" فَحُذِفَتْ "لا" لِدَلالَةِ الكَلامِ، ويَحْتَمِلُ الكَلامُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: ولا تُصَدِّقُوا وتُؤْمِنُوا بِأنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ إلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكم وجاءَ بِمِثْلِهِ وعاضِدًا لَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ لا يُؤْتاهُ غَيْرُكُمْ، ﴿أو يُحاجُّوكم عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ بِمَعْنى: إلّا أنْ يُحاجُّوكُمْ، كَما تَقُولُ: أنا لا أتْرُكُكَ أو تَقْتَضِينِي حَقِّي. وهَذا القَوْلُ عَلى هَذا المَعْنى ثَمَرَةُ التَكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ عَلى اعْتِقادٍ مِنهم أنَّ النُبُوَّةَ لا تَكُونُ إلّا في بَنِي إسْرائِيلَ. ويَحْتَمِلُ الكَلامُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: ولا تُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وتُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ إذْ قَدْ عَلِمْتُمْ صِحَّتَها إلّا لِلْيَهُودِ الَّذِينَ هم مِنكُمْ، و﴿أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ﴾ صِفَةٌ لِحالِ مُحَمَّدٍ، فالمَعْنى: تَسَتَّرُوا بِإقْرارِكم أنْ قَدْ أُوتِيَ أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أو فَإنَّهم -يَعْنُونَ العَرَبَ - يُحاجُّوكم بِالإقْرارِ عِنْدَ رَبِّكم. قالَ أبُو عَلِيٍّ: و"تُؤْمِنُوا" تَعَدّى بِالباءِ المُقَدَّرَةِ في قَوْلِهِ: "أنْ يُؤْتى" كَما تَعَدّى أوَّلَ الآيَةِ في قَوْلِهِ: "بِالَّذِي أُنْزِلَ". واللامُ في قَوْلِهِ: "لِمَن تَبِعَ" لا يَسْهُلُ أنْ تُعَلَّقَ بِـ "تُؤْمِنُوا" وأنْتَ قَدْ أوصَلْتَهُ بِالباءِ فَتُعَلِّقَ بِالفِعْلِ جارَّيْنِ، كَما لا يَسْتَقِيمُ أنْ تُعَدِّيَهُ إلى مَفْعُولَيْنِ إذا كانَ لا يَتَعَدّى إلّا إلى واحِدٍ. وإنَّما يُحْمَلُ أمْرُ هَذِهِ اللامِ عَلى المَعْنى، والمَعْنى: لا تُقِرُّوا بِأنَّ اللهَ يُؤْتِي أحَدًا مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ إلّا لِمَن، فَهَذا كَما تَقُولُ: أقْرَرْتُ لِزَيْدٍ بِألْفٍ، فَتَكُونُ اللامُ مُتَعَلِّقَةً بِالمَعْنى ولا تَكُونُ زائِدَةً عَلى حَدِّ ﴿إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] ولا تَتَعَلَّقُ عَلى حَدِّ المَفْعُولِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وقَدْ تَعَدّى "آمَنَ" بِاللامِ في (p-٢٥٦)قَوْلِهِ: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلا ذُرِّيَّةٌ﴾ [يونس: ٨٣] وقَوْلِهِ: "آمَنتُمْ لَهُ" وقَوْلِهِ: ﴿يُؤْمِنُ بِاللهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ٦١]. و"أحَدٌ" إنَّما دَخَلَ في هَذا الكَلامِ بِسَبَبِ النَفْيِ الواقِعِ في قَوْلِهِ: "وَلا تُؤْمِنُوا" كَما دَخَلَتْ "مِن" في قَوْلِهِ: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكم مِن خَيْرٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٠٥] فَكَما دَخَلَتْ "مِن" في صِلَةِ "أنْ يُنَزَّلَ" لِأنَّهُ مَفْعُولُ النَفْيِ اللاحِقِ لِأوَّلِ الكَلامِ، فَكَذَلِكَ دَخَلَ "أحَدٌ" في صِلَةِ "أنْ" في قَوْلِهِ ﴿أنْ يُؤْتى أحَدٌ﴾ لِدُخُولِ النَفْيِ في أوَّلِ الكَلامِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا لِأنَّ أحَدًا الَّذِي فِيهِ الشِياعُ لا يَجِيءُ في واجِبٍ مِنَ الكَلامِ، لِأنَّهُ لا يُفِيدُ مَعْنىً. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ بَيْنَ السَبْعَةِ: "آنْ يُؤْتى" بِالمَدِّ عَلى جِهَةِ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي هو تَقْرِيرٌ. وفَسَّرَ أبُو عَلِيٍّ قِراءَةَ ابْنِ كَثِيرٍ عَلى أنَّ الكَلامَ كُلَّهُ مِن قَوْلِ الطائِفَةِ، إلّا الِاعْتِراضَ الَّذِي هُوَ: ﴿قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ﴾ فَإنَّهُ لا يُخْتَلَفُ أنَّهُ مِن قَوْلِ اللهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ قالَ: فَلا يَجُوزُ مَعَ الِاسْتِفْهامِ أنْ يُحْمَلَ: "أنْ يُؤْتى" عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الفِعْلِ، لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ قاطِعٌ، فَيَجُوزُ أنْ تَكُونَ "أنْ" في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُصَدِّقُونَ بِهِ أو تَعْتَرِفُونَ أو تَذْكُرُونَهُ لِغَيْرِكُمْ، ونَحْوُ هَذا مِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ، ويَكُونَ "يُحاجُّوكُمْ"- عَلى هَذا- مَعْطُوفًا عَلى "أنْ يُؤْتى" قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَوْضِعُ "أنْ" مَنصُوبًا، فَيَكُونَ المَعْنى: أتُشِيعُونَ أو أتَذْكُرُونَ ﴿أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ﴾ ويَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنى قَوْلِهِ تَعالى عنهُمْ: ﴿أتُحَدِّثُونَهم بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٧٦] فَعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ مَعْنى الآيَةِ تَوْبِيخٌ مِنَ الأحْبارِ لِلْأتْباعِ عَلى تَصْدِيقِهِمْ بِأنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: "أو يُحاجُّوكُمْ" في تَأْوِيلِ نَصْبِ "أنْ" أيْ: أو تُرِيدُونَ أنْ يُحاجُّوكُمْ؟ قالَ أبُو عَلِيٍّ: و"أحَدٌ" عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ هو الَّذِي يَدُلُّ عَلى الكَثْرَةِ، وقَدْ مَنَعَ الِاسْتِفْهامُ القاطِعُ مِن أنْ يَشْفَعَ لِدُخُولِهِ النَفْيُ الَّذِي في أوَّلِ (p-٢٥٧)الكَلامِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقَدَّرَ أنَّ "أحَدٌ" الَّذِي في قَوْلِكَ: "أحَدٌ وعِشْرُونَ"، وهو يَقَعُ في الإيجابِ لِأنَّهُ بِمَعْنى واحِدٍ، وجَمَعَ ضَمِيرَهُ في قَوْلِهِ: "أو يُحاجُّوكُمْ" جَمْعًا عَلى المَعْنى، إذْ لِـ "أحَدٌ" المُرادِ بِمِثْلِ النُبُوَّةِ أتْباعٌ، فَهو في مَعْنى الكَثْرَةِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي أنْ تُرَجَّحَ فِيهِ قِراءَةُ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، لِأنَّ الأسْماءَ المُفْرَدَةَ لَيْسَ بِالمُسْتَمِرِّ أنْ تَدُلَّ عَلى الكَثْرَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: إلّا أنَّ "أحَدًا" في مِثْلِ النُبُوَّةِ يَدُلُّ عَلَيْها مِن حَيْثُ يَقْتَضِي الأتْباعَ. وقَرَأ الأعْمَشُ وشُعَيْبُ بْنُ أبِي حَمْزَةَ: "إنْ يُؤْتى" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ بِمَعْنى: لَمْ يُعْطَ أحَدٌ مِثْلَ ما أُعْطِيتُمْ مِنَ الكَرامَةِ، وهَذِهِ القِراءَةُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الكَلامُ خِطابًا مِنَ الطائِفَةِ القائِلَةِ، ويَكُونَ قَوْلُها: "أو يُحاجُّوكُمْ" بِمَعْنى: أو فَلْيُحاجُّوكم. وهَذا عَلى التَصْمِيمِ عَلى أنَّهُ لا يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيَ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى: إلّا أنْ يُحاجُّوكُمْ، وهَذا عَلى تَجْوِيزِ أنْ يُؤْتى أحَدٌ ذَلِكَ إذا قامَتِ الحُجَّةُ لَهُ، فَهَذا تَرْتِيبُ التَفْسِيرِ والقِراءاتِ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: الكَلامُ كُلُّهُ مِن قَوْلِ الطائِفَةِ. وقالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ: الكَلامُ كُلُّهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ﴾... إلى آخِرِ الآيَةِ، هو مِمّا أُمِرَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَقُولَهُ لِأُمَّتِهِ. وحَكى الزَجّاجُ وغَيْرُهُ أنَّ المَعْنى: قُلْ إنَّ الهُدى هو هَذا الهُدى، لا يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ. وحُكِيَ عن بَعْضِ النَحْوِيِّينَ أنَّ المَعْنى: أنْ لا يُؤْتِي أحَدًا، وحُذِفَتْ "لا" لِأنَّ في الكَلامِ دَلِيلًا عَلَيْها، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٧٦] أيْ أنْ لا تَضِلُّوا. وحُكِيَ عن أبِي العَبّاسِ المُبَرِّدِ: لا تُحْذَفُ "لا" وإنَّما المَعْنى كَراهَةَ أنْ تَضِلُّوا، وكَذَلِكَ هُنا: كَراهَةَ أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أيْ مِمَّنْ خالَفَ دِينَ الإسْلامِ، لِأنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَن هو كاذِبٌ كَفّارٌ، فَهُدى اللهِ بَعِيدٌ مِن غَيْرِ المُؤْمِنِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَبْعُدُ مِن هَذا القَوْلِ قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهامِ والمَدِّ، وتُحْمَلُ عَلَيْهِ قِراءَةُ الأعْمَشِ وابْنِ أبِي حَمْزَةَ: "إنْ يُؤْتى" بِكَسْرِ الألِفِ، كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَلامُ يُخْبِرُ أُمَّتَهُ أنَّ اللهَ لا يُعْطِي (p-٢٥٨)أحَدًا ولا أعْطى فِيما سَلَفَ مِثْلَ ما أعْطى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ لِكَوْنِها وسَطًا ويَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى: "أو يُحاجُّوكُمْ" -عَلى هَذِهِ المَعانِي الَّتِي تَرَتَّبَتْ في قَوْلِ السُدِّيِّ- يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: أو فَلْيُحاجُّوكم عِنْدَ رَبِّكم، يَعْنِي اليَهُودَ، فالمَعْنى: لَمْ يُعْطَ أحَدٌ مِثْلَ حَظِّكم وإلّا فَلْيُحاجُّوكم مَنِ ادَّعى سِوى ذَلِكَ. والمَعْنى الثانِي: أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "أو يُحاجُّوكُمْ" بِمَعْنى التَقْرِيرِ والإزْراءِ بِاليَهُودِ، كَأنَّهُ قالَ: أو هَلْ لَهم أنْ يُحاجُّوكم أو يُخاصِمُوكم فِيما وهَبَكُمُ اللهُ وفَضَّلَكم بِهِ؟ وقَوْلُهُ: "هُدى اللهِ" عَلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ خَبَرُ"إنَّ"؛ وقالَ قَتادَةُ والرَبِيعُ: الكَلامُ مِن قَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، هو مِمّا أُمِرَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَقُولَهُ لِلطّائِفَةِ الَّتِي قالَتْ: ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ وتَتَّفِقُ مَعَ هَذا القَوْلِ قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهامِ والمَدِّ، وتَقْدِيرُ الخَبَرِ المَحْذُوفِ "أنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ": "حَسَدْتُمْ وكَفَرْتُمْ"، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "أو يُحاجُّوكُمْ" مَحْمُولًا عَلى المَعْنى، كَأنَّهُ قالَ: أتَحْسُدُونَ أو تَكْفُرُونَ لِأنْ يُؤْتى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ؟ أو يُحاجُّوكم عَلى ما أُوتُوهُ فَإنَّهُ يَغْلِبُونَكم بِالحُجَّةِ. وأمّا عَلى قِراءَةِ غَيْرِ ابْنِ كَثِيرٍ بِغَيْرِ المَدِّ فَيَحْتَمِلُ "ذَلِكَ"أنْ يَكُونَ بِمَعْنى التَقْرِيرِ بِغَيْرِ حَرْفِ اسْتِفْهامٍ، وذَلِكَ هو الظاهِرُ مِن لَفْظِ قَتادَةَ فَإنَّهُ قالَ: يَقُولُ لَمّا أنْزَلَ اللهُ كِتابًا مِثْلَ كِتابِكم وبَعَثَ نَبِيًّا مِثْلَ نَبِيِّكم حَسَدْتُمُوهم عَلى ذَلِكَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "أنْ يُؤْتى" بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: "هُدى اللهِ" ويَكُونَ المَعْنى: قُلْ إنَّ الهُدى هُدى اللهِ، وهو أنْ يُؤْتى أحَدٌ كالَّذِي جاءَنا نَحْنُ. ويَكُونَ قَوْلُهُ: "أو يُحاجُّوكُمْ" بِمَعْنى: أو فَلْيُحاجُّوكُمْ، فَإنَّهُ يَغْلِبُونَكم. ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: "أنْ يُؤْتى" خَبَرَ "إنَّ" ويَكُونُ قَوْلُهُ: "هُدى اللهِ" بَدَلًا مِنَ "الهُدى"، وهَذا في المَعْنى قَرِيبٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَوْلُهُ تَعالى: "أنْ يُؤْتى" هو مِن قَوْلِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِلْيَهُودِ، وتَمَّ الكَلامُ في قَوْلِهِ: "أُوتِيتُمْ" وقَوْلُهُ تَعالى: "أو يُحاجُّوكُمْ" مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ الطائِفَةِ: "وَلا تُؤْمِنُوا إلّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ"، وهَذا القَوْلُ يُفَسِّرُ مَعانِيهِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِ غَيْرِهِ مِنَ التَقْسِيمِ واللهُ المُسْتَعانُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أنْ يُحاجُّوكُمْ" بَدَلَ "أو" وهَذِهِ القِراءَةُ تَلْتَئِمُ مَعَ بَعْضِ المَعانِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ، ولا تَلْتَئِمُ مَعَ بَعْضِها. (p-٢٥٩)وَقَوْلُهُ "عِنْدَ رَبِّكُمْ" يَجِيءُ في بَعْضِ المَعانِي عَلى مَعْنى "عِنْدَ رَبِّكم في الآخِرَةِ"، ويَجِيءُ في بَعْضِها عَلى مَعْنى "عِنْدَ كُتُبِ رَبِّكم والعِلْمِ الَّذِي جَعَلَ في العِبادِ"، فَأضافَ ذَلِكَ إلى الرَبِّ تَشْرِيفًا، وكَأنَّ المَعْنى: أو يُحاجُّوكم عِنْدَ الحَقِّ. وقَرَأ الحَسَنُ "إنْ يُؤْتِي أحَدٌ"، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ والتاءِ، عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلى "أحَدٌ" والمَعْنى: أنَّ إنْعامَ اللهِ لا يُشْبِهُهُ إنْعامُ أحَدٍ مِن خَلْقِهِ. وأظْهَرُ ما في القِراءَةِ أنْ يَكُونَ خِطابًا مِن مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ لِأُمَّتِهِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ. إنْ يُؤْتِي أحَدٌ أحَدًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب