الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَدَّتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكم وما يُضِلُّونَ إلا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عن طائِفَةٍ أنَّها تَوَدُّ وتَشْتَهِي أنْ تُضِلَّ المُسْلِمِينَ، أيْ تُتْلِفَهم عن دِينِهِمْ وتَجْعَلَهم في ضَلالٍ، ثُمَّ فَسَّرَ الطائِفَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ فَتَحْتَمِلُ "مِن" أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ، وتَكُونَ الطائِفَةُ الرُؤَساءَ والأحْبارَ الَّذِينَ يَسْكُنُ الناسُ إلى قَوْلِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ، وتَكُونَ الطائِفَةُ جَمِيعَ أهْلِ الكِتابِ. وقالَ الطَبَرِيُّ: "يُضِلُّونَكُمْ" مَعْناهُ: يُهْلِكُونَكُمْ، واسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ جَرِيرٍ. ؎ كُنْتَ القَذى في مَوْجِ أخْضَرَ مُزْبِدٍ ∗∗∗ قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلالا وقَوْلِ النابِغَةِ: ؎ فَآبَ مُصَلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ... ∗∗∗ البَيْتِ. (p-٢٥١)وَهَذا تَفْسِيرٌ غَيْرُ خاصٍّ بِاللَفْظَةِ، وإنَّما اطَّرَدَ لَهُ هَذا الضَلالُ في الآيَةِ وفي البَيْتَيْنِ اقْتَرَنَ بِهِ هَلاكٌ، وأمّا أنْ تُفَسَّرَ لَفْظَةُ الضَلالِ بِالهَلاكِ فَغَيْرُ قَوِيمٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما يُضِلُّونَ إلا أنْفُسَهُمْ﴾ إعْلامٌ بِأنَّ سُوءَ فِعْلِهِمْ عائِدٌ عَلَيْهِمْ، وأنَّهم بِبُعْدِهِمْ عَنِ الإسْلامِ هُمُ الضالُّونَ، ثُمَّ أعْلَمَ أنَّهم لا يَشْعُرُونَ لِذَلِكَ أىْ لا يَتَفَطَّنُونَ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشِعارِ المَأْخُوذِ مِنَ الشَعْرِ، وقِيلَ: المَعْنى: ولا يَشْعُرُونَ أنَّهم لا يَصِلُونَ إلى إضْلالِكم. ثُمَّ وقَّفَهم تَعالى مُوَبِّخًا لَهم عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ، والمَعْنى: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: لِأيِّ سَبَبٍ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ الَّتِي هي آيَةُ القُرْآنِ؛ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنَّ أمْرَهُ وصِفَةَ مُحَمَّدٍ الَّذِي هو الآتِي بِهِ في كِتابِكُمْ؟ قالَ هَذا المَعْنى قَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ والسُدِّيُّ. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ يُرِيدَ بِالآياتِ ما ظَهَرَ عَلى يَدَيْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ مِن تَعْجِيزِ العَرَبِ والإعْلامِ بِالغُيُوبِ وتَكَلُّمِ الجَماعاتِ وغَيْرِ ذَلِكَ؛ و"تَشْهَدُونَ" - عَلى هَذا - يَكُونُ بِمَعْنى تَحْضُرُونَ وتُعايِنُونَ. والتَأْوِيلُ الأوَّلُ أقْوى لِأنَّهُ رُوِيَ أنَّ أهْلَ الكِتابِ كانُوا قَبْلَ ظُهُورِ مُحَمَّدٍ ﷺ يُخْبِرُونَ بِصِفَةِ النَبِيِّ الخارِجِ وحالِهِ، فَلَمّا ظَهَرَ كَفَرُوا بِهِ حَسَدًا، فَإخْبارُهُمُ المُتَقَدِّمُ لِظُهُورِهِ هو الشَهادَةُ الَّتِي وقَفُوا عَلَيْها. قالَ مَكِّيٌّ: وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآياتِ عُنِيَ بِها قُرَيْظَةُ والنَضِيرُ وبَنُو قَيْنُقاعَ ونَصارى نَجْرانَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ﴾ مَعْناهُ: تَخْلِطُونَ، تَقُولُ: لَبَسْتُ الأمْرَ -بِفَتْحِ الباءِ- بِمَعْنى خَلَطْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام: ٩] وتَقُولُ: لَبِسْتُ الثَوْبَ، بِكَسْرِ الباءِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: الحَقُّ الَّذِي لَبَسُوهُ هو التَوْراةُ المُنَزَّلَةُ، والباطِلُ الَّذِي لَبَسُوهُ بِهِ هو ما كَتَبُوهُ بِأيْدِيهِمْ ونَسَبُوهُ إلى التَوْراةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الحَقُّ إسْلامُهم بُكْرَةً، والباطِلُ كُفْرُهم عَشِيَّةً؛ والآيَةُ نَزَلَتْ في قَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَيْفِ وعَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ والحارِثِ بْنِ عَوْفٍ:. تَعالَوْا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ وجْهَ النَهارِ، (p-٢٥٢)وَنَكْفُرُ آخِرَهُ، عَسى أنْ نَلْبِسَ عَلى المُسْلِمِينَ أمْرَهم. وقالَ قَتادَةُ وابْنُ جُرَيْجٍ: "لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ" لِمَ تَخْلِطُونَ اليَهُودِيَّةَ والنَصْرانِيَّةَ بِالإسْلامِ، وقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ دِينَ اللهِ الَّذِي لا يُقْبَلُ غَيْرُهُ الإسْلامُ؟ فَكَأنَّ المَعْنى عَلى هَذا: لِمَ تُبْقُونَ عَلى هَذِهِ الأدْيانِ وتُوجِدُونَها فَيَكُونُ في ذَلِكَ لَبْسٌ عَلى الناسِ أجْمَعِينَ؟ وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: الحَقُّ الَّذِي لَبَسُوهُ قَوْلُهُمْ: مُحَمَّدٌ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، والباطِلُ الَّذِي لَبَسُوهُ بِهِ؛ قَوْلُ أحْبارِهِمْ: لَكِنْ لَيْسَ إلَيْنا، بَلْ مِلَّةُ مُوسى مُؤَبَّدَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ يُرِيدُ شَأْنَ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَذَلِكَ قالَ الرَبِيعُ وابْنُ جُرَيْجٍ وقَتادَةُ وغَيْرُهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿وَأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تَوْقِيفٌ عَلى العِنادِ ظاهِرٌ؛ قالَ أبُو إسْحاقَ الزَجّاجُ: ولَوْ قِيلَ: "وَتَكْتُمُوا الحَقَّ" لَجازَ عَلى قَوْلِكَ: لِمَ تَجْمَعُونَ ذا وذا؟ عَلى أنَّ "تَكْتُمُوا" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الظَرْفِ في قَوْلِ الكُوفِيِّينَ، وبِإضْمارِ "أنْ" في قَوْلِ أصْحابِنا. قالَ أبُو عَلِيٍّ: الظَرْفُ هاهُنا يَقْبُحُ، وكَذَلِكَ إضْمارُ "أنْ" لِأنَّ "تَكْتُمُونَ" مَعْطُوفٌ عَلى مُوجَبٍ مُقَرَّرٍ، ولَيْسَ بِمُسْتَفْهَمٍ عنهُ، وإنَّما اسْتَفْهَمَ عَنِ السَبَبِ في اللَبْسِ، واللَبْسُ مُوجَبٌ، فَلَيْسَتِ الآيَةُ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِمْ: أتَأْكُلُ السَمَكَ وتَشْرَبُ اللَبَنَ؟ وبِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: أتَقُومُ فَأقُومُ؟ والعَطْفُ عَلى المُوجَبِ المُقَرَّرِ قَبِيحٌ مَتى نُصِبَ، إلّا في ضَرُورَةِ شِعْرٍ كَما رُوِيَ: ؎ .............. ∗∗∗ وألْحَقُ بِالحِجازِ فَأسْتَرِيحا وقَدْ قالَ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِكَ: أسِرْتَ حَتّى تَدْخُلَ المَدِينَةَ؟ لا يَجُوزُ إلّا النَصْبُ في "تَدْخُلَ" لِأنَّ السَيْرَ مُسْتَفْهَمٌ عنهُ غَيْرُ مُوجَبٍ، وإذا قُلْتَ: أيُّهم سارَ حَتّى يَدْخُلُها؟ رَفَعْتَ، لِأنَّ السَيْرَ مُوجَبٌ والِاسْتِفْهامَ إنَّما وقَعَ عن غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب