الباحث القرآني

(p-٢٤٩)قوله عزّ وجلّ: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولَكِنْ كانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ﴿إنَّ أولى الناسِ بِإبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذا النَبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ﴾ أخْبَرَ اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، عن حَقِيقَةِ أمْرِ إبْراهِيمَ، فَنَفى عنهُ اليَهُودِيَّةَ والنَصْرانِيَّةَ والإشْراكَ الَّذِي هو عِبادَةُ الأوثانِ، ودَخَلَ في ذَلِكَ الإشْراكُ الَّذِي تَتَضَمَّنُهُ اليَهُودِيَّةُ والنَصْرانِيَّةُ. وجاءَ تَرْتِيبُ النَفْيِ عَلى غايَةِ الفَصاحَةِ: نَفى نَفْسَ المِلَلِ وقَرَّرَ الحالَةَ الحَسَنَةَ، ثُمَّ نَفى نَفْيًا بَيَّنَ بِهِ أنَّ تِلْكَ المِلَلَ فِيها هَذا الفَسادُ الَّذِي هو الشِرْكُ، وهَذا كَما تَقُولُ: ما أخَذْتُ لَكَ مالًا بَلْ حَفِظْتُهُ، وما كُنْتُ سارِقًا، فَنَفَيْتَ أقْبَحَ ما يَكُونُ في الأخْذِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى إخْبارًا مُؤَكَّدًا أنَّ أولى الناسِ بِإبْراهِيمَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ، هُمُ القَوْمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلى مِلَّتِهِ الحَنِيفِيَّةِ؛ وهُنا يَدْخُلُ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الحَنِيفِيَّةَ في الفَتَراتِ، وهَذا النَبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ لِأنَّهُ بُعِثَ بِالحَنِيفِيَّةِ السَمْحَةِ، و"النَبِيُّ" في الإعْرابِ نَعْتٌ، أو عَطْفُ بَيانٍ، أو بَدَلٌ، وفي كَوْنِهِ بَدَلًا نَظَرٌ. "والَّذِينَ آمَنُوا" يَعْنِي بِمُحَمَّدٍ ﷺ وسائِرِ الأنْبِياءِ عَلى ما يَجِبُ دُونَ المُحَرِّفِينَ المُبَدِّلِينَ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ اللهَ تَعالى "وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ" وعْدًا مِنهُ لَهم بِالنَصْرِ في الدُنْيا والنَعِيمِ في الآخِرَةِ. والحَنِيفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الحَنَفِ، وهو الِاسْتِقامَةُ، وقِيلَ: هو المَيْلُ، ومِنهُ قِيلَ لِلْمائِلِ الرِجْلِ: أحْنَفٌ، فالحَنِيفُ مِنَ الاسْتِقامَةِ مَعْناهُ المُسْتَقِيمُ، ومِنَ المَيْلِ مَعْناهُ: المائِلُ عن مُعْوَجِّ الأدْيانِ إلى طَرِيقِ الحَقِّ. واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ عن لَفْظَةِ الحَنِيفِ حَتّى قالَ بَعْضُهُمُ: الحَنِيفُ: الحاجُّ، وكُلُّها عِبارَةٌ عَنِ الحَنَفِ بِإجْراءٍ مِنهُ كالحَجِّ وغَيْرِهِ. وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عن أبِيهِ، أنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إلى الشامِ يَسْألُ عَنِ الدِينِ ويَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عالِمًا مِنَ اليَهُودِ، فَسَألَهُ عن دِينِهِ، وقالَ لَهُ: إنِّي أُرِيدُ أنْ أكُونَ عَلى دِينِكُمْ، فَقالَ اليَهُودِيُّ: إنَّكَ لَنْ تَكُونَ عَلى دِينِنا حَتّى تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِن غَضَبِ اللهِ، قالَ زَيْدٌ: ما أفِرُّ إلّا مِن غَضَبِ اللهِ، ولا أحْمِلُ مِن غَضَبِ اللهِ شَيْئًا أبَدًا وأنا أسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلى دِينٍ لَيْسَ فِيهِ هَذا؟ قالَ: ما أعْلَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ (p-٢٥٠)حَنِيفًا، قالَ وما الحَنِيفُ؟ قالَ: دِينُ إبْراهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا، وكانَ لا يَعْبُدُ إلّا اللهَ. فَخَرَجَ مِن عِنْدِهِ فَلَقِيَ عالِمًا مِنَ النَصارى فَقاوَلَهُ بِمِثْلِ مُقاوَلَةِ اليَهُودِيِّ، إلّا أنَّ النَصْرانِيَّ قالَ: بِنَصِيبِكَ مِن لَعْنَةِ اللهِ، فَخَرَجَ مِن عِنْدِهِ وقَدِ اتَّفَقا لَهُ عَلى دِينِ إبْراهِيمَ، فَلَمْ يَزَلْ رافِعًا يَدَيْهِ إلى اللهِ، وقالَ: اللهُمَّ إنِّي أُشْهِدُكَ أنِّي عَلى دِينِ إبْراهِيمَ، ورَوى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةٌ مِنَ النَبِيِّينَ وإنَّ ولِيِّي مِنهم أبِي وخَلِيلُ رَبِّي إبْراهِيمُ، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ أولى الناسِ بِإبْراهِيمَ﴾ الآيَةَ".»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب