الباحث القرآني

(p-٢٤٧)قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّونَ في إبْراهِيمَ وما أُنْزِلَتِ التَوْراةُ والإنْجِيلُ إلا مِن بَعْدِهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ واللهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِيمَن نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «اجْتَمَعَتْ نَصارى نَجْرانَ وأحْبارُ يَهُودَ عِنْدَ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ فَتَنازَعُوا عِنْدَهُ، فَقالَتِ الأحْبارُ: ما كانَ إبْراهِيمُ إلّا يَهُودِيًّا، وقالَتِ النَصارى: ما كانَ إبْراهِيمُ إلّا نَصْرانِيًّا، فَأنْزَلَ اللهُ الآيَةَ.» وقالَ السُدِّيُّ وقَتادَةُ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن مُجاهِدٍ وقَتادَةَ أيْضًا أنَّهُما قالا: نَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ دَعْوى اليَهُودِ أنَّهُ مِنهم وأنَّهُ ماتَ يَهُودِيًّا، وجَعَلَ هَذا القَوْلَ تَحْتَ تَرْجَمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَهُ. والصَحِيحُ أنَّ جَمِيعَ المُتَأوِّلِينَ إنَّما نَحَوْا مَنحىً واحِدًا، وأنَّ الآيَةَ في اليَهُودِ والنَصارى، وألْفاظُ الآيَةِ تُعْطِي ذَلِكَ، فَكَيْفَ يُدافِعُ أحَدٌ أحَدَ الفَرِيقَيْنِ عن ذَلِكَ؟ وهَذِهِ الآيَةُ مُبَيِّنَةٌ فَسادَ هَذِهِ الدَعاوى الَّتِي لا تُشَبَّهُ لِقِيامِ الدَلِيلِ القاطِعِ عَلى فَسادِها، لِأنَّهُمُ ادَّعَوْا لِإبْراهِيمَ الخَلِيلِ نِحَلًا لَمْ تَحْدُثْ في الأرْضِ، ولا وُجِدَتْ إلّا بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ولَمّا كانَ الدَلِيلُ عَقْلِيًّا؛ قالَ اللهُ تَعالى لَهم مُوَبِّخًا "أفَلا تَعْقِلُونَ"؟ واخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ: "ها أنْتُمْ" في المَدِّ والهَمْزِ وتَرْكِهِ، فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "هَأنْتُمْ" في وزْنِ هَعنتُمْ، وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو: "هانْتُمْ"؟ اسْتِفْهامًا بِلا هَمْزٍ، وقَرَأ الباقُونَ: "ها أنْتُمْ" مَمْدُودًا مَهْمُوزًا، ولَمْ يَخْتَلِفُوا في مَدِّ "هَؤُلاءِ" و"أُولاءِ". فَوَجْهُ قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ أنَّهُ أبْدَلَ مِن هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ الهاءَ، أرادَ: "أأنْتُمْ"،، ووَجْهُ قِراءَةِ نافِعٍ وأبِي عَمْرٍو أحَدُ أمْرَيْنِ، يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ها- الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلى أنْتُمْ - ويَكُونَ التَنْبِيهُ داخِلًا عَلى الجُمْلَةِ، كَما دَخَلَ عَلى قَوْلِهِمْ: هَلُمَّ، وكَما دَخَلَتْ "يا" الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ في قَوْلِهِ: "ألّا يا سْجُدُوا"، وفي قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ يا قاتَلَ اللهُ صِبْيانًا تَجِيءُ بِهِمْ ∗∗∗ أُمُّ الهُنَيِّدِ مِن زَنْدٍ لَها وارى (p-٢٤٨)وَقَوْلِ الآخَرِ: ؎ يا لَعْنَةَ اللهِ والأقْوامِ كُلِّهِمُ ∗∗∗ ∗∗∗ والصالِحِينَ عَلى سَمْعانَ مِن جارِ وخُفِّفَتِ الهَمْزَةُ مِن "أنْتُمْ" ولَمْ تُحَقَّقْ بَعْدَ الألِفِ، كَما قالُوا في هَباءَةٍ: هَباةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الهاءُ في "هانْتُمْ" بَدَلًا مِن هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، كَوَجْهِ قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وتَكُونَ الألِفُ هي الَّتِي تَدْخُلُ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ، لِتَفْصِلَ بَيْنَهُما. ووَجْهُ قِراءَةِ الباقِينَ "ها أنْتُمْ" مَهْمُوزًا مَمْدُودًا يَحْتَمِلُ الوَجْهَيْنِ اللَذَيْنِ في قِراءَةِ نافِعٍ وأبِي عَمْرٍو، وحَقَّقُوا الهَمْزَةَ الَّتِي بَعْدَ الألِفِ، ولَمْ يُخَفِّفُوها كَما خَفَّفَها أبُو عَمْرٍو ونافِعٌ، ومَن لَمْ يَرَ إلْحاقَ الألِفِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ كَما يَراهُ أبُو عَمْرٍو، فَيَنْبَغِي أنْ تَكُونَ ها في قَوْلِهِ لِلتَّنْبِيهِ، ولا تَكُونَ بَدَلًا مِن هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وأمّا "هَؤُلاءِ" فَفِيهِ لُغَتانِ، المَدُّ والقَصْرُ، وقَدْ جَمَعَهُما بَيْتُ الأعْشى في بَعْضِ الرِواياتِ: ؎ هَؤُلاءِ ثُمَّ هَؤُلاءِ قَدْ أعْطَيْـ ∗∗∗ ـتُ نِعالًا مَحْذُوَّةً بِنِعالِ وأمّا إعْرابُ: "ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ" فابْتِداءٌ وخَبَرٌ، و"حاجَجْتُمْ" في مَوْضِعِ الحالِ لا يُسْتَغْنى عنها، وهي بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥]. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ "هَؤُلاءِ" بَدَلًا أو صِفَةً ويَكُونَ الخَبَرُ "حاجَجْتُمْ" وعَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ "حاجَجْتُمْ" صِلَةٌ لِأُولاءِ، والخَبَرُ في قَوْلِهِ: "فَلِمَ تُحاجُّونَ" ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِيما لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ أيْ عَلى زَعْمِكُمْ، وإنَّما المَعْنى فِيما تُشَبَّهُ فِيهِ دَعْواكُمْ، ويَكُونُ الدَلِيلُ العَقْلِيُّ لا يَرُدُّ عَلَيْكُمْ، وفَسَّرَ الطَبَرِيُّ هَذا المَوْضِعَ بِأنَّهُ فِيما لَهم بِهِ عِلْمٌ مِن جِهَةِ كُتُبِهِمْ وأنْبائِهِمْ، مِمّا أيْقَنُوهُ وثَبَتَ عِنْدَهم صِحَّتُهُ؛ وذُهِبَ عنهُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ ما كانَ هَكَذا فَلا يُحْتاجُ مَعَهم فِيهِ إلى مُحاجَّةٍ، لِأنَّهم يَجِدُونَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ، كَما كانَ هُنالِكَ عَلى حَقِيقَتِهِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب