الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿إنَّ هَذا لَهو القَصَصُ الحَقُّ وما مِن إلَهٍ إلا اللهُ وإنَّ اللهُ لَهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنْ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ﴾ ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألا نَعْبُدَ إلا اللهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أرْبابًا مِن دُونِ اللهَ فَإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾
هَذا خَبَرٌ مِنَ اللهِ تَعالى جَزْمٌ مُؤَكَّدٌ فَصَلَ بِهِ بَيْنَ المُخْتَصِمِينَ، والإشارَةُ بِـ "هَذا" هي إلى ما تَقَدَّمَ في أمْرِ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم. و"القَصَصُ" مَعْناهُ: الأخْبارُ، تَقُولُ: قَصَّ يَقُصُّ قَصًّا وقَصَصًا، إذا تَتَبَّعَ الأمْرَ يُخْبِرُ بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، قالَ قَوْمٌ: هو مَأْخُوذٌ مِن قَصَّ الأثَرَ. وقَوْلُهُ "لَهُوَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فَصْلًا ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً، و"مِن" في قَوْلِهِ: "مِن إلَهٍ" مُؤَكِّدَةٌ بَعْدَ النَفْيِ، وهي الَّتِي يَتِمُّ الكَلامُ دُونَها لَكِنَّها تُعْطِي مَعْنى التَأْكِيدِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ﴾ وعِيدٌ.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ؛ مَنِ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا﴾ فَقالَ قَتادَةُ: ذُكِرَ لَنا أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ: دَعا يَهُودَ المَدِينَةِ إلى الكَلِمَةِ السَواءِ، وهُمُ الَّذِينَ حاجُّوا في إبْراهِيمَ، وقالَهُ الرَبِيعُ وابْنُ جُرَيْجٍ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُبَيْرِ: نَزَلَتِ الآيَةُ في وفْدِ نَجْرانَ، وقالَهُ السُدِّيُّ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمّا أبى أهْلُ نَجْرانَ ما دُعُوا إلَيْهِ مِنَ المُلاعَنَةِ، (p-٢٤٥)دُعُوا إلى أيْسَرَ مِن ذَلِكَ، وهي الكَلِمَةُ السَواءُ.
والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في وفْدِ نَجْرانَ، لَكِنَّ لَفْظَ أهْلِ الكِتابِ يَعُمُّهم وسِواهم مِنَ النَصارى واليَهُودِ، فَدَعا النَبِيُّ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ يَهُودَ المَدِينَةِ بِالآيَةِ، وكَذَلِكَ كَتَبَ بِها إلى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُومِ، وكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يُدْعى بِها أهْلُ الكِتابِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "إلى كَلِمَةٍ" بِفَتْحِ الكافِ وكَسْرِ اللامِ، ورَوى أبُو السَمّالِ: "كَلْمَةٍ" - بِفَتْحِ الكافِ وسُكُونِ اللامِ - ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قَرَأ: "كِلْمَةٍ" - بِكَسْرِ الكافِ وسُكُونِ اللامِ - وذَلِكَ عَلى إلْقاءِ حَرَكَةِ اللامِ عَلى الكافِ، كَما قالُوا في كَبِدٍ، كِبْدْ بِكَسْرِ الكافِ وسُكُونِ الباءِ. والكَلِمَةُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ الألْفاظِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ المَعانِيَ المَدْعُوَّ إلَيْها، وهي ما فَسَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "ألّا نَعْبُدَ".... الآيَةِ، وهَذا كَما تُسَمِّي العَرَبُ القَصِيدَةَ كَلِمَةً، وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ الكَلِمَةَ هي ما فُسِّرَ بَعْدُ، وقالَ أبُو العالِيَةِ: الكَلِمَةُ السَواءُ: لا إلَهَ إلّا اللهُ، والقَوْلانِ مُجْتَمِعانِ، لِأنَّ كُلَّ ما فُسِّرَ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَعْنى: لا إلَهَ إلّا اللهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "سَواءٍ" نَعْتٌ لِلْكَلِمَةِ. قالَ قَتادَةُ والرَبِيعُ وغَيْرُهُما: مَعْناهُ: إلى كَلِمَةِ عَدْلٍ، فَهَذا مَعْنى السَواءِ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "إلى كَلِمَةِ عَدْلٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ" كَما فَسَّرَ قَتادَةُ والرَبِيعُ، وقالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: إلى كَلِمَةِ قَصْدٍ. وهَذا قَرِيبٌ في المَعْنى مِنَ الأوَّلِ، والسَواءُ والعَدْلُ والقَصْدُ مَصادِرُ وُصِفَ بِها في هَذِهِ التَقْدِيراتِ كُلِّها.
والَّذِي أقُولُهُ في لَفْظَةِ "سَواءٍ" أنَّها يَنْبَغِي أنْ تُفَسَّرَ بِتَفْسِيرٍ خاصٍّ بِها في هَذا المَوْضِعِ، وهو أنَّهُ دَعاهم إلى مَعانٍ، جَمِيعُ الناسِ فِيها مُسْتَوُونَ، صَغِيرُهم وكَبِيرُهم. وقَدْ كانَتْ سِيرَةُ المَدْعُوِّينَ أنْ يَتَّخِذَ بَعْضُهم بَعْضًا أرْبابًا فَلَمْ يَكُونُوا عَلى اسْتِواءِ حالٍ، فَدَعاهم بِهَذِهِ الآيَةِ إلى ما تَأْلَفُهُ النُفُوسُ "مِن حَقٍّ" لا يَتَفاضَلُ الناسُ فِيهِ، فَـ "سَواءٍ" - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ لِآخَرٍ: هَذا شَرِيكِي في مالٍ سَواءٍ بَيْنِي وبَيْنَهُ. والفَرْقُ بَيْنَ هَذا التَفْسِيرِ وبَيْنَ تَفْسِيرِ اللَفْظَةِ بِعَدْلٍ، أنَّكَ لَوْ دَعَوْتَ أسِيرًا عِنْدَكَ إلى أنْ يُسْلِمَ أو تَضْرِبَ (p-٢٤٦)عُنُقَهُ، لَكُنْتَ قَدْ دَعَوْتَهُ إلى السَواءِ الَّذِي هو العَدْلُ، وعَلى هَذا الحَدِّ جاءَتْ لَفْظَةُ "سَواءٍ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨] عَلى بَعْضِ التَأْوِيلاتِ، ولَوْ دَعَوْتَ أسِيرَكَ إلى أنْ يُؤْمِنَ فَيَكُونَ حُرًّا مُقاسِمًا لَكَ في عَيْشِكَ، لَكُنْتَ قَدْ دَعَوْتَهُ إلى السَواءِ الَّذِي هو اسْتِواءُ الحالِ عَلى ما فَسَّرْتُهُ. واللَفْظَةُ عَلى كُلِّ تَأْوِيلٍ فِيها مَعْنى العَدْلِ، ولَكِنِّي لَمْ أرَ لِمُتَقَدِّمٍ أنْ يَكُونَ في اللَفْظَةِ مَعْنىً قَصَدَ اسْتِواءَ الحالِ، وهو عِنْدِي حَسَنٌ، لِأنَّ النُفُوسَ تَأْلَفُهُ، واللهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ بِرَحْمَتِهِ.
وقَوْلُهُ: "ألّا نَعْبُدَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِمَعْنى: إلى ألّا نَعْبُدَ، فَذَلِكَ عَلى البَدَلِ مِن "كَلِمَةٍ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَعْنى: هي ألّا نَعْبُدَ، وما ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ مِن أنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الجائِزاتِ الَّتِي يَلْزَمُ عنها رَفْعُ "نَعْبُدُ" إكْثارٌ مِنهم فاخْتَصَرْتُهُ. واتِّخاذُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا أرْبابًا هو عَلى مَراتِبَ، أعْلاها اعْتِقادُهم فِيهِمُ الأُلُوهِيَّةَ، وعِبادَتُهم لَهم عَلى ذَلِكَ، كَعُزَيْرٍ وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، وبِهَذا فَسَّرَ عِكْرِمَةُ، وأدْنى ذَلِكَ طاعَتُهم لِأساقِفَتِهِمْ ورُؤَسائِهِمْ في كُلِّ ما أمَرُوا بِهِ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي والتِزامُهم طاعَتَهم شَرْعًا، وبِهَذا فَسَّرَ ابْنُ جُرَيْجٍ. فَجاءَتِ الآيَةُ بِالدُعاءِ إلى تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وأنْ يَكُونَ المُمْتَثَلُ ما قالَهُ اللهُ تَعالى عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ ﷺ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ أمْرٌ بِالإعْلانِ بِمُخالَفَتِهِمْ ومُواجَهَتِهِمْ بِذَلِكَ، وإشْهادِهِمْ عَلى مَعْنى التَوْبِيخِ والتَهْدِيدِ، أيْ سَتَرَوْنَ أنْتُمْ أيُّها المُتَوَلُّونَ عاقِبَةَ تَوَلِّيكم كَيْفَ تَكُونُ.
{"ayahs_start":62,"ayahs":["إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُفۡسِدِینَ","قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ"],"ayah":"إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق