الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ذَلِكَ مِن أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إلَيْكَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمُ وجِيهًا في الدُنْيا والآخِرَةِ ومِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ هَذِهِ المُخاطَبَةُ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ القِصَصِ. والأنْباءُ الأخْبارُ، و"الغَيْبِ" ما غابَ عن مَدارِكِ الإنْسانِ. و"نُوحِيهِ" مَعْناهُ: نُلْقِيهِ في نَفْسِكَ في خَفاءٍ. وحَدُّ الوَحْيِ إلْقاءُ المَعْنى في النَفْسِ في خَفاءٍ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ أنْواعُهُ، فَمِنهُ بِالمَلَكِ، ومِنهُ بِالإلْهامِ، ومِنهُ بِالإشارَةِ، ومِنهُ بِالكِتابِ، كَما قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:(p-٢٢٠) ؎ أتى العُجْمَ والآفاقَ مِنهُ قَصائِدٌ ∗∗∗ بَقِينَ بَقاءَ الوَحْيِ في الحَجَرِ الأصَمْ تَقُولُ العَرَبُ: أوحى، وتَقُولُ وحى. وفي هَذِهِ الآيَةِ بَيانٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ، إذْ جاءَهم بِغُيُوبٍ لا يَعْلَمُها إلّا مَن شاهَدَها وهو لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ، أو مَن قَرَأها في كُتُبِ أهْلِ الكِتابِ، ومُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَلامُ أُمِّيٌّ مِن قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، أو مَن أعْلَمَهُ اللهُ بِها وهو ذاكَ ﷺ، و"لَدَيْهِمْ" مَعْناهُ: عِنْدَهم ومَعَهُمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في الأقْلامِ والكِفْلِ. وجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ اسْتِهامٌ لِأخْذِها والمُنافَسَةِ فِيها. وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: إنَّما كانَ اسْتِهامُهم حِينَ نالَتْهُمُ المَجاعَةُ دَفْعًا مِنهم لِتُحْمَلَ مَئُونَتُها. "يَخْتَصِمُونَ" مَعْناهُ: يَتَراجَعُونَ القَوْلَ الجَهِيرَ في أمْرِها، وفي هَذِهِ الآيَةِ اسْتِعْمالُ القُرْعَةِ والقُرْعَةُ سُنَّةٌ، «وَكانَ النَبِيُّ ﷺ إذا سافَرَ أقْرَعَ بَيْنَ نِسائِهِ،» وقالَ عَلَيْهِ السَلامُ: « "لَوْ يَعْلَمُونَ ما في الصَفِّ الأوَّلِ لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"» وجُمْهُورُ الأُمَّةِ عَلى تَجْوِيزِ القُرْعَةِ إلّا مَن شَذَّ فَظَنَّ أنَّها قِمارٌ، وهَذا كُلُّهُ فِيما يَصْلُحُ التَراضِي بِكَوْنِهِ دُونَ قُرْعَةٍ، فَكَأنَّ القُرْعَةَ مُحَسِّنَةٌ لِذَلِكَ الِاخْتِصاصِ. وأمّا حَيْثُ لا يَجُوزُ التَراضِي كَعِتْقِ العَبِيدِ في ثُلُثِ المَيِّتِ فَجَوَّزَها الجُمْهُورُ ومَنَعَها أبُو حَنِيفَةَ. وفي الحَدِيثِ «أنَّ النَبِيَّ ﷺ أقْرَعَ بَيْنَ سِتَّةِ أعْبُدٍ، فَأعْتَقَ اثْنَيْنِ وأرَقَّ أرْبَعَةً.» وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ ابْتِداءٌ وخَبَرٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالفِعْلِ الَّذِي تَقْدِيرُهُ: يَنْظُرُونَ ﴿أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾، والعامِلُ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ﴾ فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ ﴿إذْ قالَتِ المَلائِكَةُ﴾، وهَكَذا يَطَّرِدُ وصْفُ الآيَةِ وتَتَوالى الإعْلاماتُ بِهَذِهِ الغُيُوبِ. وقالَ الزَجّاجُ: العامِلُ فِيها: "يَخْتَصِمُونَ"، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾، وهَذا كُلُّهُ يَرُدُّهُ المَعْنى، لِأنَّ الِاخْتِصامَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ قَوْلِ المَلائِكَةِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: "إذْ قالَ المَلائِكَةُ". واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ؛ هَلِ المَلائِكَةُ هُنا عِبارَةٌ عن جِبْرِيلَ وحْدَهُ أو عن جَماعَةٍ مِنَ المَلائِكَةِ؟ وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى ذَلِكَ (p-٢٢١)كُلِّهِ في قَوْلِهِ آنِفًا: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ [آل عمران: ٣٩] فَتَأمَّلْهُ، وتَقَدَّمَ ذِكْرُ القِراءاتِ في قَوْلِهِ: "يُبَشِّرُكِ". واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ، لِمَ عَبَّرَ عن عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ بِـ "كَلِمَةٍ" فَقالَ قَتادَةُ: جَعَلَهُ اللهُ "كَلِمَةً" إذْ هو مَوْجُودٌ بِكَلِمَةٍ وهي قَوْلُهُ تَعالى لِمُراداتِهِ: "كُنْ" وهَذا كَما تَقُولُ في شَيْءٍ حادِثٍ: هَذا قَدَرُ اللهِ، أيْ هو عِنْدَ قَدَرِ اللهِ، وكَذَلِكَ تَقُولُ: هَذا أمْرُ اللهِ. وتَرْجَمَ الطَبَرِيُّ فَقالَ: وقالَ آخَرُونَ: بَلِ الكَلِمَةُ اسْمٌ لِعِيسى سَمّاهُ اللهُ بِها كَما سَمّى سائِرَ خَلْقِهِ بِما شاءَ مِنَ الأسْماءِ، فَمُقْتَضى هَذِهِ التَرْجَمَةِ أنَّ الكَلِمَةَ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ لِعِيسى، ثُمَّ أدْخَلَ الطَبَرِيُّ تَحْتَ التَرْجَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: الكَلِمَةُ هي عِيسى، وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ مُحْتَمِلٌ أنْ يُفَسَّرَ بِما قالَ قَتادَةُ وبِغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا سَنَذْكُرُهُ الآنَ، ولَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمّا ادَّعى الطَبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ. وقالَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: سَمّاهُ اللهُ كَلِمَةً مِن حَيْثُ كانَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تَوْراةِ مُوسى وغَيْرِها مِن كُتُبِ اللهِ وأنَّهُ سَيَكُونُ، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ فِيهِ مِنَ اللهِ، فَمَعْنى الآيَةِ: أنْتِ يا مَرْيَمُ مُبَشَّرَةٌ بِأنَّكِ المَخْصُوصَةُ بِوِلادَةِ الإنْسانِ الَّذِي قَدْ تَكَلَّمَ اللهُ بِأمْرِهِ، وأخْبَرَ بِهِ في ماضِي كُتُبِهِ المُنَزَّلَةِ عَلى أنْبِيائِهِ. و"اسْمُهُ" في هَذا المَوْضِعِ، مَعْناهُ: تَسْمِيَتُهُ، وجاءَ الضَمِيرُ مُذَكَّرًا مِن أجْلِ المَعْنى، إذِ الكَلِمَةُ عِبارَةٌ عن ولَدٍ. واخْتَلَفَ الناسُ في اشْتِقاقِ لَفْظَةِ "المَسِيحُ"، فَقالَ قَوْمٌ: هو مِن ساحَ يَسِيحُ في الأرْضِ إذا ذَهَبَ ومَشى أقْطارَها، فَوَزْنُهُ "مُفْعِلٌ". وقالَ جُمْهُورُ الناسِ: هو مِن "مَسَحَ" فَوَزْنُهُ "فَعِيلٌ". واخْتَلَفُوا- بَعْدُ- في صُورَةِ اشْتِقاقِهِ مِن" مَسَحَ"؛ فَقالَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ: سُمِّيَ بِذَلِكَ مِن مِساحَةِ الأرْضِ لِأنَّهُ مَشاها فَكَأنَّهُ مَسَحَها، وقالَ آخَرُونَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ ما مَسَحَ بِيَدِهِ عَلى ذِي عِلَّةٍ إلّا بَرِئَ، فَهو عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ؛ "فَعِيلٌ" بِمَعْنى "فاعِلٌ". وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ مُسِحَ بِالبَرَكَةِ، وقالَ آخَرُونَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ مُسِحَ بِدُهْنِ القُدْسِ، فَهو عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ "فَعِيلٌ" بِمَعْنى "مَفْعُولٌ"، وكَذَلِكَ هو في قَوْلِ مَن قالَ: مَسَحَهُ اللهُ، فَطَهَّرَهُ مِنَ الذُنُوبِ. قالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: المَسِيحُ الصِدِّيقُ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: المَسِيحُ: المَلِكُ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ مَلَكَ إحْياءَ المَوْتى وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. (p-٢٢٢)وَقَوْلُهُ تَعالى: "عِيسى" يَحْتَمِلُ مِنَ الإعْرابِ ثَلاثَةَ أوجُهٍ: البَدَلَ مِنَ "المَسِيحُ"، وعَطْفَ البَيانِ، وأنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، ومَنَعَ بَعْضُ النُحاةِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ وقالَ: كانَ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ أسْماؤُهُ عَلى المَعْنى أو أسْماؤُها عَلى اللَفْظِ لِلْكَلِمَةِ، ويَتَّجِهُ أنْ يَكُونَ "عِيسى" خَبَرَ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ، تَقْدِيرُهُ: هو عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، ويَدْعُو إلى هَذا كَوْنُ قَوْلِهِ: "ابْنُ مَرْيَمَ" صِفَةً لِعِيسى إذْ قَدْ أجْمَعَ الناسُ عَلى كَتْبِهِ دُونَ ألِفٍ، وأمّا عَلى البَدَلِ أو عَطْفِ البَيانِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْنُ مَرْيَمَ صِفَةً لِعِيسى لِأنَّ الِاسْمَ هُنا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَخْصُ، هَذِهِ النَزْعَةُ لِأبِي عَلِيٍّ، وفي صَدْرِ الكَلامِ نَظَرٌ. و"وَجِيهًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، وهو مِنَ الوَجْهِ، أيْ: لَهُ وجْهٌ ومَنزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ والمَعْنى في الوَجِيهِ أنَّهُ حَيْثُما أقْبَلَ بِوَجْهِهِ، عُظِّمَ ورُوعِيَ أمْرُهُ، وتَقُولُ العَرَبُ: فُلانٌ لَهُ وجْهٌ في الناسِ ولَهُ جاهٌ، وهَذا عَلى قَلْبٍ في اللَفْظَةِ يَقُولُونَ: جاهَنِي يَجُوهُنِي بِكَذا أيْ واجَهَنِي بِهِ، وجاهُ عِيسى عَلَيْهِ السَلامُ في الدُنْيا نُبُوَّتُهُ وذِكْرُهُ، ورَفْعُهُ في الآخِرَةِ مَكانَتُهُ ونَعِيمُهُ وشَفاعَتُهُ. و"مِنَ المُقَرَّبِينَ" مَعْناهُ: مِنَ اللهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب