الباحث القرآني

(p-٢١٤)قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ ألا تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلا رَمْزًا واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وسَبِّحْ بِالعَشِيِّ والإبْكارِ﴾ الآيَةُ: العَلامَةُ. وقالَ الرَبِيعُ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُما: إنَّ زَكَرِيّاءَ قالَ: يا رَبِّ إنْ كانَ ذَلِكَ الكَلامُ مِن قِبَلِكَ والبِشارَةُ حَقٌّ، فاجْعَلْ لِي عَلامَةً أعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ بِها، فَعُوقِبَ عَلى هَذا الشَكِّ في أمْرِ اللهِ بِأنْ مُنِعَ الكَلامَ ثَلاثَةَ أيّامٍ مَعَ الناسِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لَمْ يَشُكَّ قَطُّ زَكَرِيّاءُ، وإنَّما سَألَ عَنِ الجِهَةِ الَّتِي بِها يَكُونُ الوَلَدُ وتَتِمُّ البِشارَةُ، فَلَمّا قِيلَ لَهُ: ﴿كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ [آل عمران: ٤٠] سَألَ عَلامَةً عَلى وقْتِ الحَمْلِ لِيَعْرِفَ مَتى يُحْمَلُ بِيَحْيى. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ، هَلْ كانَ مَنعُهُ الكَلامَ لِآفَةٍ نَزَلَتْ بِهِ أمْ كانَ ذَلِكَ لِغَيْرِ آفَةٍ؟ فَقالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: رَبّا لِسانَهُ في فِيهِ حَتّى مَلَأهُ ثُمَّ أطْلَقَهُ اللهُ بَعْدَ ثَلاثٍ. وقالَ الرَبِيعُ وغَيْرُهُ: عُوقِبَ لِأنَّ المَلائِكَةَ شافَهَتْهُ بِالبِشارَةِ فَسَألَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلامَةً فَأخَذَ اللهُ عَلَيْهِ لِسانَهُ، فَجَعَلَ لا يَقْدِرُ عَلى الكَلامِ. وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لَمْ تَكُنْ آفَةً، ولَكِنَّهُ مُنِعَ مُحاوَرَةَ الناسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْها، وكانَ يَقْدِرُ عَلى ذِكْرِ اللهِ، قالَهُ الطَبَرِيُّ، وذُكِرَ نَحْوُهُ عن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ. ثُمَّ اسْتَثْنى الرَمْزَ، وهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. وذَهَبَ الفُقَهاءُ في الإشارَةِ ونَحْوِها إلى أنَّها في حُكْمِ الكَلامِ في الأيْمانِ ونَحْوِها، فَعَلى هَذا يَجِيءُ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا، والكَلامُ (p-٢١٥)المُرادُ بِالآيَةِ إنَّما هو النُطْقُ بِاللِسانِ لا الإعْلامُ بِما في النَفْسِ، فَحَقِيقَةُ هَذا الِاسْتِثْناءِ أنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "رَمْزًا" - بِفَتْحِ الراءِ وسُكُونِ المِيمِ - وقَرَأ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ: "رُمُزًا" بِضَمِّهِما، وقَرَأ الأعْمَشُ: "رَمَزًا" بِفَتْحِهِما. والرَمْزُ في اللُغَةِ: حَرَكَةٌ تُعْلِمُ بِما في نَفْسِ الرامِزِ بِأيِّ شَيْءٍ كانَتِ الحَرَكَةُ؛ مِن عَيْنٍ أو حاجِبٍ أو شَفَةٍ أو يَدٍ أو عُودٍ أو غَيْرِ ذَلِكَ. وقَدْ قِيلَ لِلْكَلامِ المُحَرَّفِ عن ظاهِرِهِ: رُمُوزٌ، لِأنَّها عَلاماتٌ بِغَيْرِ اللَفْظِ المَوْضُوعِ لِلْمَعْنى المَقْصُودِ الإعْلامُ بِهِ. وقَدْ يُقالُ لِلتَّصْوِيتِ الدالِّ عَلى مَعْنىً: رَمْزٌ، ومِنهُ قَوْلُ جُؤَيَّةَ بْنِ عائِدٍ: ؎ وكانَ تَكَلُّمُ الأبْطالِ رَمْزًا ∗∗∗ وغَمْغَمَةً لَهم مِثْلَ الهَدِيرِ وأمّا المُفَسِّرُونَ فَخَصَّصَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم نَوْعًا مِنَ الرَمْزِ في تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ مُجاهِدٌ: "إلّا رَمْزًا" مَعْناهُ: إلّا تَحْرِيكًا بِالشَفَتَيْنِ، وقالَ الضَحّاكُ: مَعْناهُ إلّا إشارَةً بِاليَدِ والرَأْسِ، وبِهِ قالَ السُدِّيُّ وعَبْدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ، وقالَ الحَسَنُ: أُمْسِكَ لِسانُهُ فَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إلى قَوْمِهِ، وقالَ قَتادَةُ: "إلّا رَمْزًا" مَعْناهُ: إلّا إيماءً. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "ألّا تُكَلِّمَ الناسَ" بِنَصْبِ الفِعْلِ بِأنْ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "ألّا تُكَلِّمُ" بِرَفْعِ المِيمِ، وهَذا عَلى أنْ تَكُونَ "أنْ" مُخَفَّفَةً مِنَ الثَقِيلَةِ ويَكُونَ فِيها ضَمِيرُ الأمْرِ والشَأْنِ، والتَقْدِيرُ: آيَتُكَ أنَّهُ لا تُكَلِّمُ الناسَ. والقَوْلُ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَها قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ: « "لا صُمْتُ يَوْمًا إلى اللَيْلِ"» قَوْلٌ ظاهِرُ الفَسادِ مِن جِهاتٍ. وأمَرَهُ تَعالى بِالذِكْرِ لِرَبِّهِ كَثِيرًا لِأنَّهُ لَمْ يَحِلْ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذِكْرِ اللهِ، وهَذا قاضٍ بِأنَّهُ لَمْ (p-٢١٦)تُدْرِكْهُ آفَةٌ ولا عِلَّةٌ في لِسانِهِ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: لَوْ كانَ اللهُ رَخَّصَ لِأحَدٍ في تَرْكِ الذِكْرِ؛ لَرَخَّصَ لِزَكَرِيّاءَ عَلَيْهِ السَلامُ حَيْثُ قالَ: ﴿آيَتُكَ ألا تُكَلِّمَ الناسَ ثَلاثَةَ أيّامٍ إلا رَمْزًا﴾ لَكِنَّهُ قالَ لَهُ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: "وَسَبِّحْ" مَعْناهُ: قُلْ: سُبْحانَ اللهِ، وقالَ قَوْمٌ مَعْناهُ: صَلِّ، والقَوْلُ الأوَّلُ أصْوَبُ لِأنَّهُ يُناسِبُ الذِكْرَ ويُسْتَغْرَبُ مَعَ امْتِناعِ الكَلامِ مَعَ الناسِ. والعَشِيُّ في اللُغَةِ: مِن زَوالِ الشَمْسِ إلى مَغِيبِها، ومِنهُ قَوْلُ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: ما أدْرَكْتُ الناسَ إلّا وهم يُصَلُّونَ الظُهْرَ بِعَشِيٍّ، والعَشِيُّ مِن حِينِ يَفِيءُ الفَيْءُ، ومِنهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: ؎ فَلا الظِلَّ مِن بَرْدِ الضُحى تَسْتَطِيعُهُ ∗∗∗ ∗∗∗ ولا الفَيْءَ مِن بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ و العَشِيُّ: اسْمٌ مُفْرَدٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وجَمْعُ عَشِيَّةٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَسَفِينَةٍ وسَفِينٍ، و"الإبْكارِ" مَصْدَرُ أبْكَرَ الرَجُلُ، إذا بادَرَ أمْرَهُ مِن لَدُنِ طُلُوعِ الشَمْسِ، وتَتَمادى البُكْرَةُ شَيْئًا بَعْدَ طُلُوعِ الشَمْسِ، يُقالُ: أبْكَرَ الرَجُلُ وبَكَّرَ فَمِنَ الأوَّلِ قَوْلُ ابْنِ أبِي رَبِيعَةَ: ؎ أمِن آلِ نُعْمى أنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ... ∗∗∗.............. ومِنَ الثانِي قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎ ألا بَكَّرَتْ سَلْمى فَجَدَّ بُكُورُها ∗∗∗ ∗∗∗ وشَقَّ العَصا بَعْدَ اجْتِماعٍ أمِيرُها وقالَ مُجاهِدٌ في تَفْسِيرِ الإبْكارِ: أوَّلُ الفَجْرِ، والعَشِيِّ: مَيْلُ الشَمْسِ حَتّى تَغِيبَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب