الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُعاءِ﴾ ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ أنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهَ وسَيِّدًا وحَصُورًا ونَبِيًّا مِنَ الصالِحِينَ﴾
هُناكَ - في كَلامِ العَرَبِ - إشارَةٌ إلى مَكانٍ فِيهِ بُعْدٌ أو زَمانٌ، وهُنالِكَ بِاللامِ - أبْلَغُ في الدَلالَةِ عَلى البُعْدِ، ولا يُعْرَبُ "هُنالِكَ" لِأنَّهُ إشارَةٌ فَأشْبَهَ الحُرُوفَ الَّتِي جاءَتْ لِمَعْنىً.
ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: أنَّ في الوَقْتِ الَّذِي رَأى زَكَرِيّا رِزْقَ اللهِ لِمَرْيَمَ ومَكانَتَها مِنهُ، وفَكَّرَ في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أنْ أسَنَّتْ، وأنَّ اللهَ تَقَبَّلَها وجَعَلَها مِنَ الصالِحاتِ، تَحَرَّكَ أمَلُهُ لِطَلَبِ الوَلَدِ وقَوِيَ رَجاؤُهُ، وذَلِكَ مِنهُ عَلى حالِ سِنٍّ ووَهْنِ عَظْمٍ واشْتِعالِ شَيْبٍ، وذَلِكَ لِخَوْفِهِ المَوالِيَ مِن ورائِهِ - حَسْبَما يَتَفَسَّرُ في سُورَةِ مَرْيَمَ إنْ شاءَ اللهُ - فَدَعا رَبَّهُ أنْ يَهَبَ لَهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. و"الذُرِّيَّةُ": اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلى واحِدٍ فَصاعِدًا كَما الوَلِيُّ اسْمُ جِنْسٍ كَذَلِكَ، وقالَ الطَبَرِيُّ: إنَّما أرادَ هُنا بِالذُرِّيَّةِ واحِدًا ودَلِيلُ ذَلِكَ طَلَبُهُ ولِيًّا ولَمْ يَطْلُبْ أولِياءَ، وأنَّثَ "الطَيِّبَةَ" حَمْلًا عَلى لَفْظِ الذُرِّيَّةِ كَما قالَ الشاعِرُ:
؎ أبُوكَ خَلِيفَةٌ ولَدَتْهُ أُخْرى ∗∗∗ وأنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الكَمالُ
(p-٢٠٧)وَكَما قالَ الآخَرُ:
؎ فَما تَزْدَرِي مِن حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ ∗∗∗ ∗∗∗ سُكاتٍ إذا ما عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدا
وفِيما قالَ الطَبَرِيُّ تَعَقُّبٌ، وإنَّما الذُرِّيَّةُ والوَلِيُّ اسْما جِنْسٍ يَقَعانِ لِلْواحِدِ فَما زادَ، وهَكَذا كانَ طَلَبُ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَلامُ، و"طَيِّبَةً" مَعْناهُ: سَلِيمَةٌ في الخُلُقِ والدِينِ نَقِيَّةٌ، "سَمِيعُ" في هَذِهِ الآيَةِ بِناءُ اسْمِ فاعِلٍ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ﴾ وتُرِكَ مَحْذُوفٌ كَثِيرٌ دَلَّ ما ذُكِرَ عَلَيْهِ، تَقْدِيرُهُ: فَقَبِلَ اللهُ دُعاءَهُ، ووَهَبَهُ يَحْيى، وبَعَثَ المَلَكَ أوِ المَلائِكَةَ بِذَلِكَ إلَيْهِ، فَنادَتْهُ، وذُكِرَ أنَّهُ كانَ بَيْنَ دُعائِهِ والِاسْتِجابَةِ لَهُ بِالبِشارَةِ أرْبَعُونَ سَنَةً، وذَكَرَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ أنَّ المُنادِي المُخْبِرَ إنَّما كانَ جِبْرِيلَ وحْدَهُ، وهَذا هو العُرْفُ في الوَحْيِ إلى الأنْبِياءِ، وقالَ قَوْمٌ: بَلْ نادَتْ مَلائِكَةٌ كَثِيرَةٌ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ ألْفاظُ الآيَةِ. وقَدْ وجَدْنا اللهَ تَعالى بَعَثَ مَلائِكَةً إلى لُوطٍ وإلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ وفي غَيْرِ ما قِصَّةٍ.
وفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وقِراءَتِهِ: "فَناداهُ جِبْرِيلُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وعاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو: "فَنادَتْهُ" بِالتاءِ "المَلائِكَةُ"، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "فَناداهُ المَلائِكَةُ" - بِالألِفِ وإمالَةِ الدالِ -. قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن قَرَأ بِالتاءِ فَلِمَوْضِعِ الجَماعَةِ،والجَماعَةُ مِمَّنْ يَعْقِلُ في جَمْعِ التَكْسِيرِ؛ تَجْرِي مَجْرى ما لا يَعْقِلُ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: هي الرِجالُ كَما تَقُولُ: هي الجُذُوعُ وهي الجِمالُ، ومِثْلُهُ "قالَتِ الأعْرابُ". فَفَسَّرَ أبُو عَلِيٍّ عَلى أنَّ المُنادِيَ مَلائِكَةٌ كَثِيرَةٌ، والقِراءَةُ بِالتاءِ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ:
المُنادِي جِبْرِيلُ وحْدَهُ مُتَّجِهَةً عَلى مُراعاةِ لَفْظِ المَلائِكَةِ، وعَبَّرَ عن جِبْرِيلَ بِالمَلائِكَةِ إذْ هو مِنهُمْ، فَذَكَرَ اسْمَ الجِنْسِ كَما قالَ تَعالى: "الَّذِينَ قالَ لَهُمُ الناسُ"، قالَ أبُو عَلِيٍّ: ومَن قَرَأ: "فَناداهُ المَلائِكَةُ"، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: "وَقالَ نِسْوَةٌ في المَدِينَةِ".
(p-٢٠٨)قالَ القاضِي: وهَذا عَلى أنَّ المُنادِيَ كَثِيرٌ، ومَن قالَ إنَّهُ جِبْرِيلُ وحْدَهُ كالسُدِّيِّ وغَيْرِهِ فَأفْرَدَ الفِعْلَ مُراعاةً لِلْمَعْنى، وعَبَّرَ عن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ بِالمَلائِكَةِ إذْ هو اسْمُ جِنْسِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "فَنادَتْهُ" عِبارَةٌ تُسْتَعْمَلُ في التَبْشِيرِ وفِيما يَنْبَغِي أنْ يُسْرَعَ بِهِ ويُنْهى إلى نَفْسِ السامِعِ لِيُسَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَكُنْ هَذا مِنَ المَلائِكَةِ إخْبارًا عَلى عُرْفِ الوَحْيِ، بَلْ نِداءً كَما نادى الرَجُلُ الأنْصارِيُّ كَعْبَ بْنَ مالِكٍ مِن أعْلى الجَبَلِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُوَ قائِمٌ﴾ [الرعد: ٣٣] جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، و"يُصَلِّي" صِفَةٌ لِـ "قائِمٌ"، و"المِحْرابِ" في هَذا المَوْضِعِ مَوْقِفُ الإمامِ مِنَ المَسْجِدِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ: "إنَّ اللهَ" بِكَسْرِ الألِفِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا عَلى إضْمارِ القَوْلِ، كَأنَّهُ قالَ: "فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ" فَقالَتْ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: "فَدَعا رَبَّهُ إنِّي مَغْلُوبٌ" عَلى قِراءَةِ مَن كَسَرَ الألِفَ، وقالَ بَعْضُ النُحاةِ: كُسِرَتْ بَعْدَ النِداءِ والدُعاءِ لِأنَّ النِداءَ والدُعاءَ أقْوالٌ. وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الألِفِ مِن قَوْلِهِ: "أنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ" قالَ أبُو عَلِيٍّ: المَعْنى: فَنادَتْهُ بِأنَّ اللهَ، فَلَمّا حُذِفَ الجارُّ مِنها وصَلَ الفِعْلُ إلَيْها فَنَصَبَها، فَأنَّ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وعَلى قِياسِ قَوْلِ الخَلِيلِ في مَوْضِعِ جَرٍّ. وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ "فِي المِحْرابِ يا زَكَرِيّاءُ إنَّ اللهَ"، قالَ أبُو عَلِيٍّ: فَقَوْلُهُ: "زَكَرِيّاءُ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِوُقُوعِ النِداءِ عَلَيْهِ، ولا يَجُوزُ فَتْحُ الألِفِ في "إنَّ" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ لِأنَّ "نادَتْهُ" قَدِ اسْتَوْفَتْ مَفْعُولَيْها، أحَدُهُما الضَمِيرُ،، والآخَرُ المُنادى، فَإنْ فَتَحْتَ "إنَّ" لَمْ يَبْقَ لَها شَيْءٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وكُلُّهم قَرَأ: "فِي المِحْرابِ" بِفَتْحِ الراءِ - إلّا ابْنَ عامِرٍ فَإنَّهُ أمالَها، وأطْلَقَ ابْنُ مُجاهِدٍ القَوْلَ في إمالَةِ ابْنِ عامِرٍ الألِفَ مِن "مِحْرابْ" ولَمْ يَخُصَّ بِهِ الجَرَّ مِن غَيْرِهِ، وقالَ غَيْرُ ابْنِ مُجاهِدٍ: إنَّما نُمِيلُهُ في الجَرِّ فَقَطْ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو: "يُبَشِّرُكَ"، بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الباءِ والتَشْدِيدِ - في كُلِّ القُرْآنِ إلّا فِي: "عسق" فَإنَّهُما قَرَآ "ذَلِكَ الَّذِي يَبْشُرُ اللهُ عِبادَهُ: - بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الباءِ وضَمِّ (p-٢٠٩)الشِينِ، وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ: "يُبَشِّرُكَ" بِشَدِّ الشِينِ المَكْسُورَةِ في كُلِّ القُرْآنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ: "يَبْشُرُ" خَفِيفًا - بِضَمِّ الشِينِ "مِمّا لَمْ يَقَعْ" في كُلِّ القُرْآنِ إلّا قَوْلَهُ تَعالى: "فَبِمَ تُبَشِّرُونَ". وقَرَأ الكِسائِيُّ: "يَبْشُرُ" مُخَفَّفَةً في خَمْسَةِ مَواضِعَ: في آلِ عِمْرانَ في قِصَّةِ زَكَرِيّا وقِصَّةِ مَرْيَمَ، وفي سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ والكَهْفِ: "وَيَبْشُرُ المُؤْمِنِينَ" وفي عسق- "يَبْشُرُ اللهُ عِبادَهُ".
قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِنَ اللُغَوِيِّينَ: في هَذِهِ اللَفْظَةِ ثَلاثُ لُغاتٍ، بَشَّرَ بِشَدِّ الشِينِ، وبَشَرَ بِتَخْفِيفِها، وأبْشَرَ يُبْشِرُ إبْشارًا، وهَذِهِ القِراءاتُ كُلُّها مُتَّجِهَةٌ فَصِيحَةٌ مَرْوِيَّةٌ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "يُبْشِرُكَ" -بِضَمِّ الياءِ وتَخْفِيفِ الشِينِ المَكْسُورَةِ- مِن "أبْشَرَ" وهَكَذا قَرَأ في كُلِّ القُرْآنِ.
و"يَحْيى" اسْمٌ سَمّاهُ اللهُ بِهِ قَبْلَ أنْ يُولَدَ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: هو اسْمٌ بِالعِبْرانِيَّةِ صادَفَ هَذا البِناءَ، والمَعْنى مِنَ العَرَبِيَّةِ، قالَ الزَجّاجُ: لا يَنْصَرِفُ لِأنَّهُ إنْ كانَ أعْجَمِيًّا فَفِيهِ التَعْرِيفُ والعُجْمَةُ، وإنْ كانَ عَرَبِيًّا فالتَعْرِيفُ ووَزْنُ الفِعْلِ، وقالَ قَتادَةُ: سَمّاهُ اللهُ يَحْيى لِأنَّهُ أحْياهُ بِالإيمانِ و"مُصَدِّقًا" نُصِبَ عَلى الحالِ، وهي مُؤَكِّدَةٌ بِحَسَبِ حالِ هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَلامُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ"، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والحَسَنُ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمُ: الكَلِمَةُ هُنا يُرادُ بِها عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ. وسَمّى اللهُ تَعالى عِيسى كَلِمَةً إذْ صَدَرَ عن كَلِمَةٍ مِنهُ تَعالى لا بِسَبَبِ إنْسانٍ آخَرَ كَعُرْفِ البَشَرِ. ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ امْرَأةَ زَكَرِيّاءَ قالَتْ لِمَرْيَمَ وهُما حامِلَتانِ: إنِّي أجِدُ ما في بَطْنِي يَتَحَرَّكُ لِما في بَطْنِكِ، وفي بَعْضِ الرِواياتِ: يَسْجُدُ لِما في بَطْنِكِ قالَ: فَذَلِكَ تَصْدِيقُهُ، أيْ: أوَّلُ التَصْدِيقِ. وقالَ بَعْضُ الناسِ: "بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ" مَعْناهُ: بِكِتابٍ مِنَ اللهِ، الإنْجِيلِ وغَيْرِهِ مِن كُتُبِ اللهِ، فَأوقَعَ المُفْرَدَ (p-٢١٠)مَوْقِعَ الجَمْعِ، فَـ "كَلِمَةٍ": اسْمُ جِنْسٍ، وعَلى هَذا النَظَرِ سَمَّتِ العَرَبُ القَصِيدَةَ الطَوِيلَةَ كَلِمَةً.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَيِّدًا﴾ قالَ فِيهِ قَتادَةُ: أيْ واللهِ، سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعِبادَةِ والوَرَعِ، وقالَ مَرَّةً: مَعْناهُ: في العِلْمِ والعِبادَةِ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: "وَسَيِّدًا" أيْ حَلِيمًا، وقالَ مَرَّةً: السَيِّدُ: التَقِيُّ، وقالَ الضَحّاكُ: "وَسَيِّدًا" أيْ تَقِيًّا حَلِيمًا، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَيِّدُ الشَرِيفُ، وقالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: السَيِّدُ الفَقِيهُ العالِمُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "وَسَيِّدًا" يَقُولُ، تَقِيًّا حَلِيمًا، وقالَ عِكْرِمَةُ: السَيِّدُ الَّذِي لا يَغْلِبُهُ الغَضَبُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
كُلُّ مَن فَسَّرَ مِن هَؤُلاءِ العُلَماءِ المَذْكُورِينَ السُؤْدُدَ بِالحِلْمِ، فَقَدْ أحْرَزَ أكْثَرَ مَعْنى السُؤْدُدِ، ومَن جَرَّدَ تَفْسِيرَهُ بِالعِلْمِ والتُقى ونَحْوِهِ فَلَمْ يُفَسِّرْ بِحَسَبِ كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ تَحَصَّلَ العِلْمُ لِيَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ﴾، وتَحَصَّلَ التُقى بِباقِي الآيَةِ. وخَصَّهُ اللهُ بِذِكْرِ السُؤْدُدِ الَّذِي هو الِاعْتِمالُ في رِضى الناسِ عَلى أشْرَفِ الوُجُوهِ دُونَ أنْ يَقَعَ في باطِلٍ- هَذا لَفْظٌ يَعُمُّ السُؤْدُدَ، وتَفْصِيلُهُ أنْ يُقالَ: بَذْلُ النَدى وهَذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأذى وهُنا هي العِفَّةُ بِالفَرْجِ واليَدِ واللِسانِ، واحْتِمالُ العَظائِمِ وهُنا هو الحِلْمُ وغَيْرُهُ مِن تَحَمُّلِ الغَراماتِ وجَبْرِ الكَسِيرِ والإفْضالِ عَلى المُسْتَرْفِدِ والإنْقاذِ مِنَ الهَلَكاتِ. وانْظُرْ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: « "أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ،» يَجْمَعُ اللهُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ"، وذَكَرَ حَدِيثَ الشَفاعَةِ في إطْلاقِ المَوْقِفِ، وذَلِكَ مِنهُ احْتِمالٌ في رِضى ولَدِ آدَمَ فَهو سَيِّدُهم بِذَلِكَ. وقَدْ يُوجَدُ مِنَ الثِقاتِ العُلَماءِ مَن لا يَبْرُزُ في هَذِهِ الخِصالِ، وقَدْ يُوجَدُ مَن يَبْرُزُ في هَذِهِ فَيُسَمّى سَيِّدًا وإنْ قَصَّرَ في كَثِيرٍ مِنَ الواجِباتِ، أعْنِي واجِباتِ النَدْبِ والمُكافَحَةِ في الحَقِّ وقِلَّةِ المُبالاةِ بِاللائِمَةِ. وقَدْ قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما رَأيْتُ أحَدًا أسْوَدَ مِن مُعاوِيَةَ بْنِ أبِي سُفْيانَ، قِيلَ لَهُ: (p-٢١١)وَأبُو بَكْرٍ وعُمَرُ؟ قالَ: هُما خَيْرٌ مِن مُعاوِيَةَ، ومُعاوِيَةُ أسْوَدُ مِنهُما. فَهَذِهِ إشارَةٌ إلى أنَّ مُعاوِيَةَ بَرَزَ في هَذِهِ الخِصالِ ما لَمْ يُواقِعْ مَحْذُورًا؛ وأنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ كانا مِنَ الاسْتِضْلاعِ بِالواجِباتِ وتَتَبُّعِ ذَلِكَ مِن أنْفُسِهِما وإقامَةِ الحَقائِقِ عَلى الناسِ بِحَيْثُ كانا خَيْرًا مِن مُعاوِيَةَ، ومَعَ تَتَبُّعِ الحَقائِقِ، وحَمْلِ الناسِ عَلى الجادَّةِ، وقِلَّةِ المُبالاةِ بِرِضاهُمْ، والوَزْنِ بِقِسْطاسِ الشَرِيعَةِ تَحْرِيرًا يَنْخَرِمُ كَثِيرٌ مِن هَذِهِ الخِصالِ الَّتِي هي السُؤْدُدُ ويَشْغَلُ الزَمَنُ عنها. والتُقى والعِلْمُ والأخْذُ بِالأشَدِّ أوكَدُ وأعْلى مِنَ السُؤْدُدِ، أمّا إنَّهُ يَحْسُنُ بِالتَقِيِّ العالِمِ أنْ يَأْخُذَ مِنَ السُؤْدُدِ بِكُلِّ ما لا يُخِلُّ بِعِلْمِهِ وتُقاهُ، وهَكَذا كانَ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ، ولَيْسَ هَذا الَّذِي يَحْسُنُ بِواجِبٍ ولا بُدَّ، كَما لَيْسَ التَتَبُّعُ والتَحْرِيرُ في الشِدَّةِ بِواجِبٍ ولا بُدَّ، وهُما طَرَفا خَيْرٍ حَفَّتْهُما الشَرِيعَةُ، فَمِن صائِرٍ إلى هَذا ومِن صائِرٍ إلى هَذا، ومِثالُ ذَلِكَ، حاكِمٌ صَلِيبٌ مُعَبِّسٌ فَظٌّ عَلى مَن عِنْدَهُ أدْنى عِوَجٍ لا يَعْتَنِي في حَوائِجِ الناسِ، وآخَرُ بَسْطُ الوَجْهِ بَسّامٌ يَعْتَنِي فِيما يَجُوزُ، ولا يَتَتَبَّعُ ما لَمْ يُرْفَعْ إلَيْهِ ويُنَفِّذُ الحُكْمَ مَعَ رِفْقٍ بِالمَحْكُومِ عَلَيْهِ، فَهُما طَرِيقانِ حَسَنانِ.
وقَوْلُهُ: "وَحَصُورًا" أصْلُ هَذِهِ اللَفْظَةِ الحَبْسُ والمَنعُ، ومِنهُ الحَصِيرُ لِأنَّهُ يَحْصُرُ مَن جَلَسَ عَلَيْهِ، ومِنهُ سُمِّيَ السِجْنُ حَصِيرًا وجَهَنَّمُ حَصِيرًا، ومِنهُ حَصْرُ العَدُوِّ وإحْصارُ المَرَضِ والعُذْرِ، ومِنهُ قِيلَ: لِلَّذِي لا يُنْفِقُ مَعَ نُدَمائِهِ حَصُورٌ، قالَ الأخْطَلُ:
؎ وشارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نادَمَنِي ∗∗∗ ∗∗∗ لا بِالحَصُورِ ولا فِيها بِسَوّارِ
ويُقالُ لِلَّذِي يَكْتُمُ السِرَّ حَصُورٌ وحَصِرٌ، قالَ جَرِيرٌ:
؎ ولَقَدْ تَساقَطَنِي الوُشاةُ فَصادَفُوا ∗∗∗ ∗∗∗ حَصِرًا بِسِرِّكِ يا أُمَيْمُ ضَنِينا
وأجْمَعَ مَن يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذِهِ الصِفَةَ لِيَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما هي الِامْتِناعُ مِن وطْءِ النِساءِ، إلّا ما حَكى مَكِّيٌّ مِن قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ الحَصُورُ عَنِ الذُنُوبِ (p-٢١٢)أيْ لا يَأْتِيها. ورَوى ابْنُ المُسَيِّبِ عَنِ ابْنِ العاصِي- إمّا عَبْدُ اللهِ وإمّا أبُوهُ- عَنِ النَبِيِّ ﷺ، أنَّهُ قالَ: « "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ ولَهُ ذَنْبٌ إلّا ما كانَ مِن يَحْيى بْنِ زَكَرِيّاءَ" قالَ: ثُمَّ دَلّى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِيَدِهِ إلى الأرْضِ فَأخَذَ عُوَيْدًا صَغِيرًا، ثُمَّ قالَ: "وَذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ما لِلرِّجالِ إلّا مِثْلُ هَذا العُودِ، ولِذَلِكَ سَمّاهُ اللهُ سَيِّدًا وحَصُورًا"» وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الحَصُورُ: العِنِّينُ، وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: الحَصُورُ: الَّذِي لا يَأْتِي النِساءَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والضَحّاكُ: الحَصُورُ: الَّذِي لا يُنْزِلُ الماءَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّ حَصْرَ يَحْيى عَلَيْهِ السَلامُ كانَ لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلّا مِثْلُ الهُدْبَةِ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ حَصْرَهُ كانَ لِأنَّهُ كانَ عِنِّينًا لا يَأْتِي النِساءَ وإنْ كانَتْ خِلْقَتُهُ غَيْرَ ناقِصَةٍ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ حَصْرَهُ كانَ بِأنَّهُ كانَ يُمْسِكُ نَفْسَهُ تُقىً وجَلَدًا في طاعَةِ اللهِ، وكانَتْ بِهِ القُدْرَةُ عَلى جِماعِ النِساءِ. قالُوا: وهَذا أمْدَحُ لَهُ ولَيْسَ لَهُ في التَأْوِيلَيْنِ الأوَّلَيْنِ مَدْحٌ، إلّا بِأنَّ اللهَ يَسَّرَ لَهُ شَيْئًا لا تَكَسُّبَ لَهُ فِيهِ، وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ، ورُوِيَ مِن صَلاحِهِ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ كانَ يَعِيشُ مِنَ العُشْبِ، وأنَّهُ كانَ كَثِيرَ البُكاءِ مِن خَشْيَةِ اللهِ حَتّى خَدَّدَ الدَمْعُ في وجْهِهِ طُرُقًا وأخادِيدَ.
{"ayahs_start":38,"ayahs":["هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِیَّا رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبۡ لِی مِن لَّدُنكَ ذُرِّیَّةࣰ طَیِّبَةًۖ إِنَّكَ سَمِیعُ ٱلدُّعَاۤءِ","فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"],"ayah":"فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَهُوَ قَاۤىِٕمࣱ یُصَلِّی فِی ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدࣰا وَحَصُورࣰا وَنَبِیࣰّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق