الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيامًا وقُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ ويَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النارِ﴾ ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ وما لِلظّالِمِينَ مَن أنْصارٍ﴾ "الَّذِينَ" في مَوْضِعِ خَفْضٍ صِفَةِ "لِأُولِي الألْبابِ"، وهَذا وصْفٌ ظاهِرُهُ اسْتِعْمالُ التَحْمِيدِ والتَهْلِيلِ والتَكْبِيرِ ونَحْوِهِ مِن ذِكْرِ اللهِ، وأنْ يَحْصُرَ القَلْبُ اللِسانَ، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ وُجُوهِ العِباداتِ، والأحادِيثُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وابْنُ آدَمَ مُنْتَقِلٌ في هَذِهِ الثَلاثِ الهَيْئاتِ لا يَخْلُو في غالِبِ أمْرِهِ مِنها فَكَأنَّها تَحْصُرُ زَمَنَهُ، وكَذَلِكَ جَرَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها إلى حَصْرِ الزَمَنِ في قَوْلِها: «كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ اللهَ عَلى كُلِّ أحْيانِهِ،» فَدَخَلَ في ذَلِكَ كَوْنُهُ عَلى الخَلاءِ وغَيْرُ ذَلِكَ. (p-٤٤٦)وَذَهَبَتْ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ﴾ إنَّما هو عِبارَةٌ عَنِ الصَلاةِ، أيْ: لا يُضَيِّعُونَها، فَفي حالِ العُذْرِ يُصَلُّونَها قُعُودًا وعَلى جُنُوبِهِمْ، قالَ بَعْضُهُمْ: وهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا قَضَيْتُمُ الصَلاةَ فاذْكُرُوا اللهَ﴾ [النساء: ١٠٣]... الآيَةِ، هَذا عَلى تَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَ هُنالِكَ: "قَضَيْتُمْ" بِمَعْنى: أدَّيْتُمْ، لِأنَّ بَعْضَ الناسِ يَقُولُ: "قَضَيْتُمْ" هُنالِكَ بِمَعْنى: فَرَغْتُمْ مِنها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَإذا كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الصَلاةِ فَفِقْهُها أنَّ الإنْسانَ يُصَلِّي قائِمًا، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقاعِدًا، ظاهِرُ المُدَوَّنَةِ مُتَرَبِّعًا، ورُوِيَ عن مالِكٍ وبَعْضِ أصْحابِهِ أنَّهُ يُصَلِّي كَما يَجْلِسُ بَيْنَ السَجْدَتَيْنِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعِ القُعُودَ صَلّى عَلى جَنْبِهِ أو ظَهْرِهِ عَلى التَخْيِيرِ، هَذا مَذْهَبُ المُدَوَّنَةِ. وحَكى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ ابْنِ القاسِمِ: يُصَلِّي عَلى ظَهْرِهِ فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ عَلى الأيْسَرِ. وفي كِتابِ ابْنِ المَوّازِ: يُصَلِّي عَلى جَنْبِهِ الأيْمَنِ، وإلّا فَعَلى الأيْسَرِ، وإلّا فَعَلى الظَهْرِ. وقالَ سَحْنُونٌ: يُصَلِّي عَلى الأيْمَنِ كَما يُجْعَلُ في لَحْدِهِ، وإلّا فَعَلى ظَهْرِهِ، وإلّا فَعَلى الأيْسَرِ. وحَسُنَ عَطْفُ قَوْلِهِ: "وَعَلى جُنُوبِهِمْ" عَلى قَوْلِهِ: "قِيامًا وقُعُودًا" لِأنَّهُ في مَعْنى مُضْطَجِعِينَ. ثُمَّ عَطَفَ عَلى هَذِهِ العِبادَةِ الَّتِي هي ذِكْرُ اللهِ بِاللِسانِ أوِ الصَلاةِ فَرْضِها ومَندُوبِها بِعِبادَةٍ أُخْرى عَظِيمَةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرَةِ اللهِ تَعالى ومَخْلُوقاتِهِ، والعِبَرِ الَّتِي بَثَّ: ؎ وفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ «وَمَرَّ النَبِيُّ ﷺ عَلى قَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في اللهِ فَقالَ: "تَفَكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تُفَكِّرُوا في الخالِقِ، فَإنَّكم لا تُقَدِّرُونَ قَدْرَهُ"» وهَذا هو قَصْدُ الآيَةِ ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ﴾. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُتَفَكِّرُ في ذاتِ اللهِ تَعالى كالناظِرِ في (p-٤٤٧)عَيْنِ الشَمْسِ، لِأنَّهُ تَعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وإنَّما التَفْكِيرُ وانْبِساطُ الذِهْنِ في المَخْلُوقاتِ، وفي مَخاوِفِ الآخِرَةِ. قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "لا عِبادَةَ كَتَفَكُّرٍ"» وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، الفِكْرَةُ مِرْآةُ المُؤْمِنِ، يَنْظُرُ فِيها إلى حَسَناتِهِ وسَيِّئاتِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو الدَرْداءِ: "فِكْرَةُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن قِيامِ لَيْلَةٍ". وقالَ سَرِيٌّ السَقَطِيُّ. "فِكْرَةُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ سَنَةٍ"، ما هو إلّا أنْ تَحُلَّ أطْنابَ خَيْمَتِكَ فَتَجْعَلَها في الآخِرَةِ. وأخَذَ أبُو سُلَيْمانَ الدارانِيُّ قَدَحَ الماءِ لِيَتَوَضَّأ لِصَلاةِ اللَيْلِ وعِنْدَهُ ضَيْفٌ، فَرَآهُ لَمّا أدْخَلَ إصْبَعَهُ في أُذُنِ القَدَحِ أقامَ كَذَلِكَ مُفَكِّرًا حَتّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَقالَ لَهُ: ما هَذا يا أبا سُلَيْمانَ؟ فَقالَ: إنِّي لَمّا طَرَحْتُ أُصْبُعِي في أُذُنِ القَدَحِ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وتَعالى: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ والسَلاسِلُ﴾ [غافر: ٧١] فَفَكَّرْتُ في حالِي، وكَيْفَ أتَلَقّى الغُلَّ إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يَوْمَ القِيامَةِ، فَما زِلْتُ في ذَلِكَ حَتّى أصْبَحْتُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذِهِ نِهايَةُ الخَوْفِ، وخَيْرُ الأُمُورِ أوسَطُها. ولَيْسَ عُلَماءُ الأُمَّةِ الَّذِينَ هُمُ الحُجَّةُ عَلى هَذا المِنهاجِ، وقِراءَةُ عِلْمِ كِتابِ اللهِ ومَعانِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِمَن يَفْهَمُ ويُرْجى نَفْعُهُ أفْضَلُ مِن هَذا، لَكِنَّهُ يَحْسُنُ ألّا تَخْلُوَ البِلادُ مِن مِثْلِ هَذا. (p-٤٤٨)وَحَدَّثَنِي أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ عن بَعْضِ عُلَماءِ المَشْرِقِ قالَ: كُنْتُ بائِتًا في مَسْجِدِ الأقْدامِ بِمِصْرَ، فَصَلَّيْتُ العَتَمَةَ فَرَأيْتُ رَجُلًا قَدِ اضْطَجَعَ في كِساءٍ لَهُ مُسَجّىً بِكِسائِهِ حَتّى أصْبَحَ، وصَلَّيْنا نَحْنُ تِلْكَ اللَيْلَةَ وسَهِرْنا، فَلَمّا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُبْحِ قامَ ذَلِكَ الرَجُلُ فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ فَصَلّى مَعَ الناسِ، فاسْتَعْظَمْتُ جُرْأتَهُ في الصَلاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمّا فَرَغَتِ الصَلاةُ خَرَجَ فَتَبِعْتُهُ لِأعِظَهُ، فَلَمّا دَنَوْتُ مِنهُ سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ: ؎ مُنْسَحِقُ الجِسْمِ غائِبٌ حاضِرْ ∗∗∗ مُنْتَبِهُ القَلْبِ صامِتٌ ذاكِرْ ؎ مُنْقَبِضٌ في الغُيُوبِ مُنْبَسِطٌ ∗∗∗ كَذاكَ مَن كانَ عارِفًا ذاكِرْ ؎ يَبِيتُ في لَيْلِهِ أخا فِكْرٍ ∗∗∗ فَهْوَ مَدى اللَيْلِ قائِمٌ ساهِرْ قالَ فَعَلِمْتُ أنَّهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ بِالفِكْرَةِ وانْصَرَفْتُ عنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "رَبَّنا" مَعْناهُ: يَقُولُونَ: رَبَّنا عَلى النِداءِ، ﴿ما خَلَقْتَ هَذا باطِلا﴾، يُرِيدُ لِغَيْرِ غايَةٍ مَنصُوبَةٍ بَلْ خَلَقْتَهُ وخَلَقْتَ البَشَرَ لِيُنْظَرَ فِيهِ فَتُوَحَّدَ وتُعْبَدَ، فَمَن فَعَلَ ذَلِكَ نَعَّمْتَهُ ومَن ضَلَّ عن ذَلِكَ عَذَّبْتَهُ لِكُفْرِهِ وقَوْلِهِ عَلَيْكَ ما لا يَلِيقُ بِكَ. ولِهَذا المَعْنى الَّذِي تُعْطِيهِ قُوَّةُ اللَفْظِ حَسُنَ قَوْلُهُمْ: "سُبْحانَكَ"، أيْ تَنْزِيهًا لَكَ عَمّا يَقُولُ المُبْطِلُونَ. وحَسُنَ قَوْلُهُمْ: "فَقِنا عَذابَ النارِ" إذْ نَحْنُ المُسَبِّحُونَ المُنَزِّهُونَ لَكَ المُوَحِّدُونَ. وقَوْلُهُمْ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النارَ فَقَدْ أخْزَيْتَهُ﴾، اسْتِجارَةٌ واسْتِعاذَةٌ، أيْ: فَلا تَفْعَلْ بِنا ذَلِكَ، ولا تَجْعَلْنا مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَها. والخِزْيُ: الفَضِيحَةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَةُ لِقَدْرِ المَرْءِ، خَزِيَ الرَجُلُ يَخْزى خِزْيًا إذا افْتُضِحَ، وخَزايَةً إذا اسْتَحْيى، الفِعْلُ واحِدٌ والمَصْدَرُ مُخْتَلِفٌ. وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهُمْ: هَذِهِ إشارَةٌ إلى مَن يَخْلُدُ في النارِ، ومَن يَخْرُجُ مِنها بِالشَفاعَةِ والإيمانِ فَلَيْسَ بِمَخْزِيٍّ. وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وغَيْرُهُ: كُلُّ مَن دَخَلَ النارَ فَهو مَخْزِيٌّ وإنْ خَرَجَ مِنها، وإنَّ في دُونِ ذَلِكَ لَخِزْيًا. (p-٤٤٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أما إنَّهُ خِزْيٌ دُونَ خِزْيٍ، ولَيْسَ خِزْيَ مَن يَخْرُجُ مِنها بِفَضِيحَةٍ هادِمَةٍ لِقَدْرِهِ، وإنَّما الخِزْيُ التامُّ لِلْكُفّارِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ هو مِن قَوْلِ الداعِينَ، وبِذَلِكَ يَتَّسِقُ وصْفُ الآيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب