الباحث القرآني

(p-٤٣٨)قوله عزّ وجلّ: ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أمْوالِكم وأنْفُسِكم ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكم ومِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرًا وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ ﴿وَإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وراءَ ظُهُورِهِمْ واشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ﴾ هَذا الخِطابُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ وأُمَّتِهِ، والمَعْنى: لَتُخْتَبَرُنَّ ولَتُمْتَحَنُنَّ في أمْوالِكم بِالمَصائِبِ والأرْزاءِ، وبِالإنْفاقِ في سَبِيلِ اللهِ، وفي سائِرِ تَكالِيفِ الشَرْعِ، والِابْتِلاءُ في الأنْفُسِ بِالمَوْتِ والأمْراضِ، وفَقْدِ الأحِبَّةِ بِالمَوْتِ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في سَبَبِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكُمْ﴾ فَقالَ عِكْرِمَةُ وغَيْرُهُ: السَبَبُ في ذَلِكَ قَوْلُ فِنْحاصَ: إنَّ اللهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءٌ، وقَوْلُهُ: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ الزُهْرِيُّ وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِسَبَبِ كَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ، فَإنَّهُ كانَ يَهْجُو النَبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ ويُشَبِّبُ بِنِساءِ المُسْلِمِينَ، حَتّى بَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَن قَتَلَهُ القَتَلَةَ المَشْهُورَةَ في السِيرَةِ. والأذى اسْمٌ جامِعٌ في مَعْنى الضَرَرِ وهو هُنا يَشْمَلُ أقْوالَهم فِيما يَخُصُّ النَبِيَّ ﷺ وأصْحابَهُ مِن سَبِّهِمْ وأقْوالِهِمْ في جِهَةِ اللهِ تَعالى وأنْبِيائِهِ. ونَدَبَ اللهُ تَعالى عِبادَهُ إلى الصَبْرِ والتَقْوى، وأخْبَرَ أنَّهُ مِن عَزْمِ الأُمُورِ، أيْ مِن أشَدِّها وأحْسَنِها. والعَزْمُ: إمْضاءُ الأمْرِ المُرَوّى المُنَقَّحُ، ولَيْسَ رُكُوبُ الأمْرِ دُونَ رَوِيَّةٍ عَزْمًا إلّا عَلى مَقْطَعِ المُشِيحِينَ مِن فُتّاكِ العَرَبِ كَما قالَ:(p-٤٣٩) ؎ إذا هَمَّ ألْقى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ ونَكَّبَ عن ذِكْرِ الحَوادِثِ جانِبا وقالَ النَقّاشُ: العَزْمُ والحَزْمُ بِمَعْنىً واحِدٍ، الحاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ العَيْنِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا خَطَأٌ. والحَزْمُ: جَوْدَةُ النَظَرِ في الأُمُورِ وتَنْقِيحُهُ والحَذَرُ مِنَ الخَطَإ فِيهِ، والعَزْمُ: قَصْدُ الإمْضاءِ، واللهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿وَشاوِرْهم في الأمْرِ فَإذا عَزَمْتَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] فالمُشاوَرَةُ وما كانَ في مَعْناها هو الحَزْمُ، والعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أحْزِمُ لَوْ أعْزِمُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾... الآيَةُ، تَوْبِيخٌ لِمُعاصِرِي النَبِيِّ ﷺ، ثُمَّ هو مَعَ ذَلِكَ خَبَرٌ عامٌّ لَهم ولِغَيْرِهِمْ. والعامِلُ في "إذْ" فِعْلٌ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، وأخَذَ هَذا المِيثاقَ وهو عَلى ألْسِنَةِ الأنْبِياءِ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُدِّيُّ وابْنُ جُرَيْجٍ: الآيَةُ في اليَهُودِ خاصَّةً، أخَذَ اللهُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ في أمْرِ مُحَمَّدٍ فَكَتَمُوهُ ونَبَذُوهُ. قالَ مُسْلِمٌ البَطِينُ: سَألَ الحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ جُلَساءَهُ عن تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ فَقامَ رَجُلٌ إلى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَسَألَهُ فَقالَ لَهُ: نَزَلَتْ في يَهُودَ، أخَذَ المِيثاقَ عَلَيْهِمْ في أمْرِ مُحَمَّدٍ فَكَتَمُوهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: "وَإذْ أخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَبِيِّينَ لَتُبَيِّنُنَّهُ" فَيَجِيءُ قَوْلُهُ: "فَنَبَذُوهُ" عائِدًا عَلى الناسِ الَّذِينَ بَيَّنَ الأنْبِياءُ لَهم. وقالَ قَوْمٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: الآيَةُ في اليَهُودِ والنَصارى. وقالَ جُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ: الآيَةُ عامَّةٌ في كُلِّ مَن عَلَّمَهُ اللهُ عِلْمًا، وعُلَماءُ هَذِهِ الأُمَّةِ داخِلُونَ في هَذا المِيثاقِ، وقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "مَن سُئِلَ (p-٤٤٠)عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيامَةِ بِلِجامٍ مِن نارٍ"» وقَدْ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: إنِّي لَأُحَدِّثُكم حَدِيثًا، ولَوْلا آيَةٌ في كِتابِ اللهِ ما حَدَّثْتُكُمُوهُ، ثُمَّ تَلا: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتابِ﴾ [البقرة: ١٧٤] وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ: "لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنّاسِ ولا يَكْتُمُونَهُ"، بِالياءِ مِن أسْفَلَ فِيهِما، وقَرَأ الباقُونَ وحَفْصٌ وعاصِمٌ بِالتاءِ مِن فَوْقٍ فِيهِما، وكِلا القِراءَتَيْنِ مُتَّجِهٌ، والضَمِيرُ في الفِعْلَيْنِ عائِدٌ عَلى الكِتابِ. وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "لَتُبَيِّنُونَهُ" دُونَ النُونِ الثَقِيلَةِ، وقَدْ لا تَلْزَمُ هَذِهِ النُونُ لامَ القَسَمِ، قالَهُ سِيبَوَيْهِ. والنَبْذُ: الطَرْحُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَراءَ ظُهُورِهِمْ﴾ اسْتِعارَةٌ لِما يُبالَغُ في اطِّراحِهِ، ومِنهُ ﴿واتَّخَذْتُمُوهُ وراءَكم ظِهْرِيًّا﴾ [هود: ٩٢]، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: ؎ تَمِيمَ بْنَ مُرٍّ لا تَكُونَنَّ حاجَتِي ∗∗∗ بِظَهْرٍ فَلا يَعْيا عَلَيَّ جَوابُها ومِنهُ بِالمَعْنى قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الراكِبِ".» أرادَ عَلَيْهِ السَلامُ: لا تَجْعَلُوا ذِكْرِي وطاعَتِي خَلْفَ أظْهُرِكُمْ، وهو مَوْضِعُ القَدَحِ ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ: ؎ .................................... ∗∗∗ ما نِيطَ خَلْفَ الراكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ والتَشْبِيهُ بِالقَدَحِ إنَّما هو في هَيْئَتِهِ لا في مَعْناهُ، لِأنَّ الراكِبَ يَحْتاجُهُ، ومَحَلُّهُ مِن (p-٤٤١)مَحَلّاتِ الراكِبِ جَلِيلٌ. والثَمَنُ القَلِيلُ: هو مَكْسَبُ الدُنْيا. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: والظاهِرُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّها نَزَلَتْ في اليَهُودِ، وهُمُ المَعْنِيُّونَ ثُمَّ إنَّ كُلَّ كاتِمٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِن هَذِهِ المَذَمَّةِ ويَتَّصِفُ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب