الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّما ذَلِكُمُ الشَيْطانُ يُخَوِّفُ أولِياءَهُ فَلا تَخافُوهم وخافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ في الكُفْرِ إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهَ ألا يَجْعَلَ لَهم حَظًّا في الآخِرَةِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإيمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ (p-٤٢٥)مُقْتَضى "إنَّما" في اللُغَةِ الحَصْرُ، هَذا مَنزَعُ المُتَكَلِّمِ بِها مِنَ العَرَبِ. ثُمَّ إذا نُظِرَ عَقْلًا- وهَذا هو نَظَرُ الأُصُولِيِّينَ- فَهي تَصْلُحُ لِلْحَصْرِ ولِلتَّأْكِيدِ الَّذِي يُسْتَعارُ لَهُ لَفْظُ الحَصْرِ، وهي في هَذِهِ الآيَةِ حاصِرَةٌ، والإشارَةُ بِـ "ذَلِكُمُ" إلى جَمِيعِ ما جَرى مِن أخْبارِ الرَكْبِ العَبْدِيِّينَ، عن رِسالَةِ أبِي سُفْيانَ، ومِن تَحْمِيلِ أبِي سُفْيانَ ذَلِكَ الكَلامَ، ومِن جَزَعِ مَن جَزِعَ مِن ذَلِكَ الخَبَرِ مِن مُؤْمِنٍ أو مُتَرَدِّدٍ. و"ذَلِكُمُ" في الإعْرابِ ابْتِداءٌ، و"الشَيْطانُ" مُبْتَدَأٌ آخَرُ، و"يُخَوِّفُ أولِياءَهُ" خَبَرٌ عَنِ الشَيْطانِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ الِابْتِداءِ الأوَّلِ، وهَذا الإعْرابُ خَيْرٌ في تَناسُقِ المَعْنى مِن أنْ يَكُونَ "الشَيْطانُ" خَبَرَ "ذَلِكُمُ" لِأنَّهُ يَجِيءُ في المَعْنى اسْتِعارَةً بَعِيدَةً، و"يُخَوِّفُ" فِعْلٌ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، لَكِنْ يَجُوزُ الِاقْتِصارُ عَلى أحَدِهِما إذِ الآخَرُ مَفْهُومٌ مِن بِنْيَةِ هَذا الفِعْلِ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: خَوَّفْتُ زَيْدًا، فَمَعْلُومٌ ضَرُورَةً أنَّكَ خَوَّفْتَهُ شَيْئًا حَقُّهُ أنْ يُخافَ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "يُخَوِّفُ أولِياءَهُ" فَقالَ قَوْمٌ المَعْنى: يُخَوِّفُكم أيُّها المُؤْمِنُونَ أولِياءَهُ الَّذِينَ هم كُفّارُ قُرَيْشٍ، فَحُذِفَ المَفْعُولُ الأوَّلُ، وقالَ قَوْمٌ: المَعْنى يُخَوِّفُ المُنافِقِينَ ومَن في قَلْبِهِ مَرَضٌ، وهم أولِياؤُهُ، فَإذًا لا يَعْمَلُ فِيكم أيُّها المُؤْمِنُونَ تَخْوِيفُهُ، إذْ لَسْتُمْ بِأولِيائِهِ، والمَعْنى: يُخَوِّفُهم كُفّارَ قُرَيْشٍ، فَحُذِفَ هُنا المَفْعُولُ الثانِي واقْتُصِرَ عَلى الأوَّلِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما حَكى أبُو عَمْرٍو الدانِي: "يُخَوِّفُكم أولِياؤُهُ" المَعْنى: يُخَوِّفُكم قُرَيْشٌ ومَن مَعَهُمْ، وذَلِكَ بِإضْلالِ الشَيْطانِ لَهُمْ، وذَلِكَ كُلُّهُ مُضْمَحِلٌّ، وبِذَلِكَ قَرَأ النَخْعِيُّ. وحَكى أبُو الفَتْحِ بْنُ جِنِّيٍّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ: "يُخَوِّفُكم أولِياءَهُ" فَهَذِهِ قِراءَةٌ ظَهَرَ فِيها المَفْعُولانِ، وفَسَّرَتْ قِراءَةَ الجَماعَةِ: "يُخَوِّفُ أولِياءَهُ" وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "يُخَوِّفُكم بِأولِيائِهِ". والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "فَلا تَخافُوهُمْ" لِكُفّارِ قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ مِن أولِياءِ الشَيْطانِ، حَقَّرَ اللهُ شَأْنَهم وقَوّى نُفُوسَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وأمَرَهم بِخَوْفِهِ هو تَعالى وامْتِثالِ أمْرِهِ مِنَ الصَبْرِ والجَلَدِ، ثُمَّ قَرَّرَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ كَما تَقُولُ: إنْ كُنْتَ رَجُلًا فافْعَلْ كَذا. وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ "يُحْزِنْكَ" بِضَمِّ الياءِ مِن أحْزَنَ، وكَذَلِكَ قَرَأ في جَمِيعِ القُرْآنِ، إلّا في سُورَةِ الأنْبِياءِ: "لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ" فَإنَّهُ فَتَحَ الياءَ، وقَرَأ الباقُونَ: "يَحْزُنْكَ" (p-٤٢٦)بِفَتْحِ الياءِ، مِن قَوْلِكَ: حَزَنْتُ الرَجُلَ. قالَ سِيبَوَيْهِ: يُقالُ حَزِنَ الرَجُلُ وفُتِنَ إذا أصابَهُ الحُزْنُ والفِتْنَةُ. وحَزَنْتُهُ وفَتَنْتُهُ، إذا جَعَلْتُ فِيهِ وعِنْدَهُ حُزْنًا وفِتْنَةً، كَما تَقُولُ: دَهَنْتُ وكَحَّلْتُ، إذا جَعَلْتَ دُهْنًا وكُحْلًا، وأحْزَنْتُهُ وأفْتَنْتُهُ إذا جَعَلْتَهُ حَزِينًا وفاتِنًا، كَما تَقُولُ أدْخَلْتُهُ وأسْمَعْتُهُ، هَذا مَعْنى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ. والمُسارَعَةُ في الكُفْرِ هي المُبادَرَةُ إلى أقْوالِهِ وأفْعالِهِ والجِدُّ في ذَلِكَ. وقَرَأ الحُرُّ النَحْوِيُّ "يُسْرِعُونَ" في كُلِّ القُرْآنِ، وقِراءَةُ الجَماعَةِ أبْلَغُ، لِأنَّ مَن يُسارِعُ غَيْرَهُ أشَدُّ اجْتِهادًا مِنَ الَّذِي يُسْرِعُ وحْدَهُ، ولِذَلِكَ قالُوا: "كُلُّ مُجْرٍ بِالخَلاءِ يُسَرُّ". وسَلّى اللهُ نَبِيَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عن حالِ المُنافِقِينَ والمُجاهِدِينَ إذْ كُلُّهم مُسارِعٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا﴾ خَبَرٌ في ضِمْنِهِ وعِيدٌ لَهم أيْ: إنَّما يَضُرُّونَ أنْفُسَهم. والحَظُّ إذا لَمْ يُقَيَّدْ فَإنَّما يُسْتَعْمَلُ في الخَيْرِ، ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وَما يُلَقّاها إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥]. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ أطْلَقَ عَلَيْهِمُ الشِراءَ مِن حَيْثُ كانُوا مُتَمَكِّنِينَ مِن قَبُولِ هَذا وهَذا فَجاءَ أخْذُهم لِلْواحِدِ وتَرْكُهم لِلْآخَرِ كَأنَّهُ تَرْكٌ لِما قَدْ أُخِذَ وحُصِّلَ، إذْ كانُوا مُمَكَّنِينَ مِنهُ، ولِمالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ مُتَعَلَّقٌ بِهَذِهِ الآيَةِ في مَسْألَةِ شِراءِ ما تَخْتَلِفُ آحادُ جِنْسِهِ مِمّا لا يَجُوزُ التَفاضُلُ فِيهِ، في أنَّ مَنعَ الشِراءِ عَلى أنْ يَخْتارَ المُبْتاعُ، وباقِي الآيَةِ وعِيدٌ كالمُتَقَدِّمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب